رمضان في اليمن حكاية لا تنتهي!

‏  8 دقائق للقراءة        1546    كلمة

الحديدة نيوز- آدم المزجاجي

ما إن تبدأ ملامح تجلياته وقداسته تقترب، ستجد هناك طقوسًا روحانية تبدو للوهلة في أبهى صورها، لتحكي تفاصيل الحياة العادية، كل شيء في المكان والطبيعة يبدأ يتشكل ويختلف تمامًا، وكأن في ذلك شيئًا يشعرك باختلاف كل ما في الوجود، فالحياة فيه تصبح أكثر إيمانًا وتمسكًا بالقداسة الدينية، كحرمة هذا الشهر المبارك الذي هو فضيل بكل أيامه وخيراتها وبهجة لياليه.

هو شهر غفران ورحمة وتسامح، فيه تجديد للإرادة البشرية تجاه ثوابت الإسلام ومسلماته، لم يكن شهرًا عابرًا كباقي شهور السنة، وإنما هو شهر مقدس، وفيه من المقامات والكرامات ما يكفي ليجعل الفرد يتدبر عظمته وفضائله التي لا تعد ولا تحصى.

في رمضان هناك طقوس وتفاصيل تحكي حكايات وعادات وتقاليد كل المجتمعات والشعوب، كل على حدة، واليمن بطبيعتها، ورقة ناسها، وجوها اللطيف، وتاريخها القديم والمعاصر، لها حكاية وطابع خاص يجعلها زاخرة بالإرث الروحاني والديني معًا في شهر رمضان الخير.

لكل بلد طابعها في استقبال رمضان، وعاداتها وتقاليدها المعتبرة إرثًا مسلمًا به، وفي اليمن هناك عادات وتقاليد تتجسد بكل تفاصيلها الجميلة، ما إن يهل شهر الله الكريم حتى تبدأ تلك التفاصيل بالظهور بكل أشكالها وصورها، بدء من قدومه، وحتى لحظة اقتراب أول يوم من أيامه

.

بسمة اليمنيين، ودماثة أخلاقهم، وعفويتهم وتسامحهم، وحدها هي من تكون حاضرة عندما يهل هلال شهر الخير والغفران، وأنت في اليمن السعيد، ستجد أن هناك حكاية لا تنتهي في معايشة الأيام الرمضانية، قداسة المكان وروحانياته للوهلة الأولى ستجعلك تدرك جيدًا ما نقصده، بغض النظر عن تعقيدات الواقع وطبيعة الحرب التي يمر بها البلد وشعبه، كل هذه الظواهر تختفي تمامًا في شهر الله المبارك، فالناس اعتاد بهم الأمر أن يتناسوا اللحظة العصيبة وظروف الواقع والأزمة معًا، لا شيء هناك يمنع من أن يعيش المواطن اليمني طقوسه بالطريقة التي تعود عليها، بتكرار تراثها وعاداتها وتقاليدها وترفها المقنن.

أجواء روحانية تنتظر قدوم الشهر الكريم، وحتى طبيعة المكان ستجعلك تستشعر حلاوة اللحظة الإيمانية ونشوتها، فالمساجد ومآذنها المشكلة بالزخرفة المعمارية ذات الطابع اليمني الفريد بذاتها شاهدة في المكان، ومنها تفوح باقات الطقوس الإيمانية، وتصدح الأصوات الملائكية بالتسابيح، والتواشيح، والتهاليل الربانية، معلنة لحظة الاستبشار بقدوم شهر رمضان المبارك، الذي هو شهر خير وأبرك الشهور وأخيرها عند الله تعالى؛ فهو الشهر الذي أنزل فيه القرآن الكريم، وجعله الله هدى ورحمة للعالمين.

في مثل هذا الشهر يكون المسلمون في أبهى صورهم النورانية، وهم يؤدون طقوس الصوم، والصلاة، والزكاة، والعطف على الضعفاء والبسطاء، ناهيك عن العمل بالتسامح والسلام والعفو عن كل ما عكر نوايا الإخوة والألفة الجماعية المعتادة .

ستذهلك طقوس هذا الشهر في بلاد اليمن، ودون مبالغة ستجد صفات التراحم، والتسامح، والكرم شائعة في كل بقاع المدن والأرياف، لا وجود للحقد والضغائن داخل المجتمع اليمني المتعايش ببساطة بعيدًا عن الترف المبالغ وتكاليف الاستقبال المذموم، هناك ستجد للبساطة مكانًا، وللحب والتسامح أيضًا مكان، وكل أنواع التبذير والتفاخر مغيبة تمامًا، وإن حضرت ستكون بالمعقول، وبما يكفي النفس ولذتها، فالصفة الروحانية والإيمانية هي من تتصدر المشهد، ولك أن تجدها وتعايشها في البيئة المكانية، عندما تقرر أن تعيش في نطاق البيئة المجتمعية لليمانيين.

لا شيء هناك في بلدي اليمن يعكر صفو هذه المناسبة المقدسة، كل أشكال الفوضى والتذمر تذهب بعيدًا كأن في ذلك ملاك قد حل وصرفها بعيدًا عن الحياة والواقع.

اليمن في رمضان تتميز بطابعها وعاداتها التي تختلف عن باقي الشعوب، كل ما في الواقع له حكايته الأسطورية عند الأجداد والآباء، التي تحكي إرثًا وتراثًا حضارة ضاربة جذورها في عمق التاريخ القديم والحاضر.

في الذاكرة اليمنية شهر رمضان له الطابع الخاص، وما زال له حفاوة الاستقبال بالابتهالات والتواشيح بكل الألوان التراثية، واللون الصنعاني هو أكثر ابتهاجًا وشوقًا حتى نعيش اللحظة المقدسة للشعور بقدوم شهر رمضان، ونحن نستمع لتلك التجليات والتراتيل بلهجتها الصنعانية في أوقات المغيب وأوقات السحور، ندرك كم نحن سعداء في لحظة انبساط عابرة.

لا أجمل علينا نحن أبناء اليمن من هذه الطقوس الرائعة، التي هي بالنسبة لنا إرث أبدي مخلد في الذاكرة، والتي لا غنى عنها في كل محافلنا ومناسباتنا الفرائحية والدينية، نخلدها بتراثها وعاداتها وتقاليدها، ولا، ليس من تذمر من الواقع المأساوي التي تمر به البلد نتيجة الحرب والأزمة وعدمية الأشياء.

رغم أن البلد ما زالت تكتوي بنيران الحرب، والأزمة، وظروف معيشية لا يحسد عليها، وحده المواطن من يعايش تفاصيلها المرة، فإن هنالك أملًا كبيرًا وتفاؤلًا في نفوس اليمنيين، وهذا لن ولم يكن بعائق لنا حتى نمتنع من الاحتفاء بقدوم شهر عظيم كشهر رمضان، فظروف الواقع زادت فينا همة عالية لمواجهة كل أشكال الضيم، والإعلان للأمة بأن هناك شعبًا ما زال يؤمن ويعتقد بالفرج القريب مهما كانت طبيعة الواقع وتراكمات المرحلة.

نحن اليمانيون ربما عاداتنا وتقاليدنا فيها الكثير من الاختلاف، وليس هناك ما يشابه مجتمعًا ما، وفي رمضان تبدأ تلك العادات والتقاليد تظهر جلية من خلال طريقة الاستقبال، وموائد الإفطار، وطقوس العبادات والعمل فمثلًا هناك طرق استقبال لشهر رمضان تختلف من منطقة إلى منطقة، وكل منطقه لها تراثها وكيفياتها.

في المدينة طريقة الاستقبال تختلف تمامًا عن الريف، هناك الابتهالات والتسابيح جاءت بألوانها، وهي مجمعة نتيجة التشكل السكاني وبيئة العيش على اعتبار أن المدينة هي مجمع لقبائل ومجتمعات جاءت من عدة مناطق وحلت في مدينة ما، وصنعاء وجدت تراثها قد تشكل نتيجة الاندماج والخلط مع تراث آخر، أعطى لها طابعها الخاص.

العادات والتقاليد أيضًا لها اختلافها من بلد إلى بلد آخر، ومن مجتمع إلى مجتمع، وإن وجد التشابه يصعب فهمه، حتى ولو كان هناك إيجاد مطلق لدقائق أمورها، نحن في اليمن لنا عاداتنا في بعض الأمور، وقد نتفق مع بعض المجتمعات في أشياء ثانوية، في ما يخص المقدسات الإيمانية، وإن وجد اختلاف ربما قد يظهر في كيفية أداء طقوس التهجد وصلاتها المفروضة، والتسابيح المعمول بها في شهر رمضان، وهذا يعود إلى التعدد المذهبي والطائفي وطريقة التعايش المسلم بها بين المجتمع نفسه، ولا أظن أن هناك ما يفسد طبيعة التعايش بعيدًا عن تقبل الآخر، واليمن بلد تحترم مقدسات كل جماعات على حدة، وإن حدث الانشقاق سرعان ما يزول، فالجامع في رمضان وفي غيره يستقبل كل الأطياف بتعددهم الحزبي والطائفي، وبعيدًا عن التقسيم الطبقي المقيت أو فلسفة التدين المتطرف والمرفوض أصلًا.

اليمن مُجمع تاريخي لكل العادات والتقاليد الجميلة والرائعة، التي لا يمل من معايشتها لحظة، رمضان في اليمن له مذاقه الخاص وأسلوبه المميز الذي يجعلك فعلًا تتمنى أن تقضي خير أيامه فيه، كيف لا؟ واليمن هي منبع حضارات الأمم وإرث تراث العرب، وكلما زاد التاريخ عراقة، زادت الأشياء الثمينة وتنوعت، والطقوس ما تتم إلا في بلد له تاريخ وله حكايا قصصية مألوفة عند العرب والعالم .

يحل رمضان على اليمنيين وهم في أتم استعداداتهم؛ فتبدأ التهاليل والابتهالات تصدح في أرجاء المكان ومآذن الجوامع في الحارات والشوارع، لتنذرك بقدوم خير الشهور وأفضلها عند الله جلاء وعلاء، طقوس إيمانية لا مثيل لها، تزداد فيها ثباتًا وإيمانًا قويًّا وطاقة روحانية ستبث في روحك هممًا عالية وروحًا مثالية.

نحن في اليمن كغيرنا من البلدان، ما إن يأتي رمضان حتى يبادر الكل بالاستقبال بطريقته الخاصة، هناك أناس تذهب في عمل التجهيزات من خلال تزيين المنازل، كشعور أولي مألوف عليه لاستقبال الشهر الكريم، وهذه هي عادة توارثها سكان العاصمة صنعاء –أقصد صنعاء القديمة– وهم أول من سكنوا المدينة صنعاء، ولهم عاداتهم الجميلة في إحياء ليالي رمضان واستقباله.

سكان صنعاء وباقي مدن اليمن في آخر أيام شهر شعبان ستراهم يصنعون للمكان حركة ونشاط، فتنشط الأسواق التجارية ومولات المدن بالبيع والشراء، نتيجة الإقبال الكبير على شراء متطلبات رمضان وتزيين المطبخ اليمني بأغراضه المعتاد عليها في مثل هذا الشهر المبارك.

فالجمع الأسري، ولم الشمل، وتوحيد الصفوف هو أول ما يعمل على لملمته البيت اليمني أثناء رمضان، الجميع يتشارك في تبادل التهاني والتبريكات العاطرة ترحيبًا بقدومه، والجميع يحرص على أن تكون سفرة الإفطار جمعًا شاملًا بين الأسرة الواحدة.

البيت اليمني في رمضان يحاول أن يجعل المائدة تختلف عن باقي موائد السنة، هناك تفنن بالطعام وتعدد في الأصناف، واليمن بلاد عربية مشهور بأصناف الطعام والمأكولات الشعبية التي لا يقارن بها مع أحد، مثلًا في السفرة الصنعانية تتنوع الوجبة والأطباق، ستجد من المأكولات ما يحلو لنفسك، وما إن يرفع صوت الأذان معلنًا بداية الفطور حتى تنقضي فريضة الله، ويأتي وقت العشاء تحضر المائدة التي تتنوع بها المأكولات، وهناك أطباق لا بد منها في كل بيت يمني، مثل الشربة والشفوت البلدي، والسلتة، والفحسة، والعصيد، وكلها أكلات يمنية مشهورة بمسميات قد يصعب فهمها عند غير اليمنيين، إلا من قد زار اليمن وتذوقها.

بالنسبة لأنواع العصائر المشهورة في اليمن، هناك أنواع متعددة، وأغلبها عصائر طبيعية لا مواد تحسين فيها، لكن الأكثر شهرة ورغبة عند اليمنيين في شهر رمضان أطباق الحلويات متعددة الصنف، كالهريسة وهي حلوى مصنوعة بطريقة احترافية، لها نكهتها وطعمها الفريد، وهناك أيضًا حلويات الرواني، وبنت الصحن، والكنافة والعوامة، والبسبوسة، والقطائف، والبقلاوة، وكل هذه الأصناف تكون حاضرة في المائدة الرمضانية، ولها طابعها المعتاد ولا غنى عنه في السفرة اليمنية، على اعتبار أنها نكهة المكان وعادات متوارثة منذ الأزل.

وما إن ينقضي الناس من مائدة الطعام، حتى تبدأ بعدها مرحلة الأداء المقدس لصلاة التهجدات المفروضة وصلاة العشاء، ثم ينصرف الناس نحو الأعمال والتجوال في وسط المدن والحواري العتيقة، كصنعاء القديمة التي هي أكثر المناطق إقبالًا عند اليمنيين.

في صنعاء القديمة قد تجد كل مأثور وكل الأشياء الثمينة، فيها الأسواق التاريخية التي تحكي تراث بلد بحجم موطني اليمن، والإرث الثمين الذي يطيب للزائر زيارته، وتزداد أجواؤه روحانية في شهر رمضان من خلال ما يتزين به من قناديل مضيئة وشوارع نظيفة ومعروضات جميلة.

في هذه المدينة الأزلية، وتحديدًا في رمضان، تكون فيها الحركة مزدحمة والحياة نشطة منذ بداية الليل وحتى يقترب وقت السحور، لتبدأ بعدها الحركة بالتراجع، ويرفع الصوت المنادي لصلاة الفجر، وفي هذه اللحظة الزمنية يكون الكل قد انصرف، وخلت الشوارع من المارة، وحل السكون إلى الصباح، لتعود الأمور لما كانت عليه، وهنا تكتمل الحكاية بكل بساطة.

عن arafat

شاهد أيضاً

بدء أعمال المؤتمر العلمي الثاني “فلسطين قضية الأمة المركزية” بصنعاء

‏‏  13 دقائق للقراءة        2561    كلمة الحديدة نيوز –  صنعاء – رياض الزواحي –  سبأ بمشاركة محلية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *