تختلف ثقافات الشعوب باختلاف مرجعياتها الفكرية، والمثل الشعبي جزء رئيس من الهوية، فبواسطته ندرك أفكار الشعب، ودرجة ارتقائه أو تخلفه، وتتجلى طبيعة المثل الشعبي في إيجازه وثباته، ومضمونه هو غاية ضربه، ويتسم بالقبول والتداول.
والمثل الشعبي يتضمن معاني دينية وأخلاقية واجتماعية، ويستعمل للاحتجاج لصحة القضايا المطروحة للنقاش، فيصبح المثل حجة لا يمكن دحضها، وقد عرف الحضرمي عبر تاريخه ضروباً من الأسلحة بحسب ما تجود به الخبرة أو هجراته، ومن هنا تنوعت الأسلحة التي عرفها واستعملها، ونشير إلى ما ورد على لسانه في أمثاله. عن السلاح الأبيض:
«معاد عند السيوف جرجرة»
مفردة معاد أصلها حرف النفي ما والفعل الماضي عاد، ولفظ الجرجرة له دلالات متعددة في لسان العامة بحضرموت، وفسره بامطرف بأن المقصود منه «التظاهر بامتشاق الحسام»، ويفهم من ذلك أن حامله يتردد في سل السيف وإعادته إلى غمده وما يحدثه ذلك من صوت ينتج عن الاحتكاك، وذلك يناسب كلمة جرجرة؛ إذ إن معناها لغة يدور بين التصويت والتردد.
والمثل الآخر الذي ذكر فيه السيف هو قولهم: «ما تصلح سيفين في جفير»، والجفير هي الغمد المصنوع من الجلد.
«ما جت اليد على الجنبية»:
جت هو الفعل الماضي جاء متصل آخره بتاء التأنيث، والجنبية هي خنجر أو سكين يتمنطق بها رجال حضرموت، وقد سميت بالجنبية نسبة إلى الظرف الجلدي الذي توضع فيه، أو لأنهم اعتادوا على وضعها في الجنب عند التمنطق بها، و«يضرب هذا المثل للذي يتعرض للهوان وهو متمنطق بجنبيته، وكأن يده ضلت طريقها لىسلاحه».
ومن السلاح الناري قولهم: «مدفع مدفع خشبة خشبة»، ويحكون قصة المثل لحاكم كان بين أتباعه وهو ينظر لجسم بعيد، فزعم أنه مدفع، فقال أتباعه: «هو مدفع»، ثم تراءى له أنه خشبة فردد أتباعه قوله، ومن ثم «يضرب هذا المثل للمنافق الذي يردد ما يقوله رئيسه حقاً كان أو باطلاً».
«صدقش والفتيلة»:
بو فتيلة نوع من البنادق استعملها الحضارم، والفتيلة هي الذبالة، وينسب المثل لرجل أراد التمظهر بالشجاعة أمام زوجته! فزعم أنه ألقى نفسه في ماء ومعه بندقية بو فتيلة، وصوبها نحو عدوه، فاستغربت زوجته أن يستمر في ضرب النار بينما الفتيلة تمس الماء من دون أن تنطفئ، فاعترف بكذبه، وخاطبها: «صدقش والفتيلة»، أي «والفتيلة لم أحسب لها حساباً».
وهناك أمثال أخرى تذكر البندقية، هي: «الميت ما يسمع قرحة البندق»، «البندق والسترة والثور والجدرة»، «البندق ذراع تتصدر بآه وتضرب بآه».
«يا رصاصة ترزقي»:
ترزقي فعل أمر للرصاصة مجازاً، إشارة لحامل السلاح عندما يقوم بإطلاق النار عشوائياً، إذ أنه «قد يقتل طفلاً أو عجوزاً أو إنساناً بريئاً»، ويصدق المثل على من «يلقي قنبلة مدمرة على مدينة من دون أن يعلم مسبقاً من الذين سوف يقتلهم أو يجرحهم بقنبلته».
ومن الأمثلة الأخرى التي تضم الرصاص وغيره من متعلقات السلاح قولهم: «الرصاص يدور للمقتول»، «الرصاص يدور ليافع»، «راح الباروت فشافيش».
وهناك أمثلة عديدة دلت على فعل الحرب وأحوال المحاربين، وتطرقت لبعض ما يرتبط بها من خدع وما يتوسل به المتنازعون من طرائق لانتزاع النصر أو إلحاق الأذى بأعدائهم، ويتناول بعضها النتائج الكارثية للحرب، ومن بينها:
«الضرب في الدور»
الضرب يطلقه العامة على سماعهم لأصوات استعمال الأسلحة، مثل قعقعة السيوف، أو رشقات الرصاص، أو قصف المدافع، والدُّور فسره بامطرف بأنه «سور المدينة»، ويضرب هذا المثل للدلالة على حالة الخطر القصوى، أي «حينما يصبح الأمر من الخطورة بحيث لم يعد السكوت عليه محتملاً».
«عود صك عود»:
العود هو الخشب المستطيل، والصك الضرب الشديد، كقوله تعالى: «فصكت وجهها»، ويضرب هذا المثل إذا «ثارت الحرب بين طرفين قويين»، دلالة على شراسة الحرب بينهم.
«قتل تحت حصن لا تحت عريش»:
الفعل قتل أصله اقتل، فهو فعل أمر إلى النفس، أي أن تُقتل تحت حصن، وفيه حث على الشجاعة؛ لأنه لا يقتل تحت الحصن إلا من صمد للدفاع عنه، ولا تكاد توجد قبيلة أو قرية بحضرموت إلا ولها حصن معلوم، وسقوطه مؤداة إلى الهزيمة، أما أن تقتل تحت عريش ففيه مهانة الهروب، أو مذلة التخاذل عن القتال والتخلف عنه حتى يأتيك عدوك إلى عقر دارك.
«هتاف خير من ملاقي»:
الهتاف صيغة مبالغة من هتف، والهتف لغة هو الصوت العالي أو الشديد، وهتفت بفلان أي ناديته ودعوته لنصرة أو نجدة، والهتاف «هو المحرض على القتال، والذي يكشف مواطن الضعف في الأعداء حين القتال»، أما الملاقي فهو «المحارب»؛ لأنه يواجه العدو في الميدان.
«الجرهدة نص القتال»:
تدور معاني الجرهدة بين السرعة والشدة، وهي حالة من يتخاصم كلامه فيه سرعة وشدة برفع الصوت، فالجرهدة لدى العامة هي «التخاصم بصوت عال بغرض الغلبة في التخاطب»؛ لذا شبهت حالة المتجرهد بالقتال، كما أن الحرب تبدأ بالخصام وعلو الكلام.
وثمة أمثال أخرى ذات دلالة على أفعال الحرب والقتال أو ما يشاكلها، هي: «الهيبة أعظم من القتال»، «صوب صادف عتراه»، «طرح المصوب فوق المقتول»، «عط الصيح يومه»، «من لا يفادي لا يجيب الغنايم».
وللحضارم أمثال تتحدث عن حالات الصلح والعودة إلى السلام بعد أن ينتهوا عن القتال ويكتووا بشؤمه:
«الصلحاة قطبة من المزايفة»
الصلحاة هي الصلح، والقطبة هي القطعة من الشيء، والمزايفة المراد منها المجازفة، ولكن حدث بها قلب مكاني، فتقدم الزاي على الجيم، والعوام بحضرموت ينطقون الجيم ياء، وهي لهجة عربية قديمة، والمقصود من المثل أن المصالحة قد ترغمك على تنازلات أنت غير ميال إلى تقديمها.
«من سلمنا من الطعن سلم الله من النار»:
أي سلمه الله، والمراد دعاء لكل من أطفأ نار فتنة، أو سعى بإصلاح بين الناس، وذلك يتضمن الحث على مبادرة العقلاء والوجهاء وذوي الرأي للقيام بدور المصلح، وحجز الواقعين في الفتنة عن تماديهم، وأن يجنحوا للسلم حقًا للدماء.
«ما تقدم تهدم»:
يجمع بين تقنيتين بلاغيتين؛ إحداهما تعود لمعناه هي الإيجاز، والأخرى لحسن الصياغة وهي الجناس، وهو يضرب عند الصلح بين قبيلتين كانتا متناحرتين، أي أن ما كان بينهما من مطالبات وذحول يعتبر بعد المصالحة غير قابل للمناقشة، وقد يمتد إطلاقه إلى المصالحة العائلية أو التي تتم بين الأصدقاء.
«المصلح سيفه خوصة»:
الخوص ورق النخل، والمراد بها رقتها وخفتها فلا تصلح سلاحاً، والمقصود أن المصلح بين متخاصمين ليس له قوة قهرية عليهما ترغمها على الانصياع لقوله وحكمه، وإنما هو يعتمد أولاً وقبل كل شيء على تراضي الطرفين.
«يا ربيداه بالخرق»:
يا ربيداه استغاثة، والربد هو الحبس، والخرق يطلقها العامة على قطع القماش البالية، فالراء منحرفة عن اللام؛ لأن البالي هو الخلَق باللام، والفلاح الحضرمي اعتاد حبس مجرى الماء بالخرق، وقد يكون المراد بالخرق الفرجة أو الشق، أي يطلب حبسه وسده، كقولهم: «اتسع الخرق على الراقع»، والمعنى حث من يستطيع فرض الصلح إلى المسارعة إلى احتواء خصام شجر بين زوج وزوجته، أو بين صديقين، أو جماعتين قبل تفاقمه، فمن سيفرض الصلح والسلام في بلادنا، والأمر قد تفاقم، وبلغ الحلاقم.

المصدر : العربي ..