مثَّلَ ما تعرض له «مسجد الفازة» الأثري من محو عن الوجود، على أيدي متطرفين ينتمون إلى قوات تابعة لـ«الحكومة الشرعية» فاجعة كبيرة لدى اليمنيين الذين بات يرعبهم تدمير آثارهم ونهبها تنفيذاً لأجندة قوى محلية ودولية، وجعلهم يدقون ناقوس الخطر من جديد، محذرين مما قد يصيب ما تبقى من آثار باتت في مرمى القوى المتصارعة في حرب لا تولي عناية بهذه الآثار.
كسر الحواضن
تتعرض آثار اليمن للتدمير الممنهج منذ أكثر من عشرين عاماً، كما تتعرض للنهب والمتاجرة والتهريب، وقد اشتدت ضراوة التدمير والتهريب في تسعينيات القرن الماضي، واستفحلت بشكل لافت إبان الحرب الجارية في البلد، وقد وجدت أطراف سياسية خارجية المجال مفتوحاً لتدمير ما لم تستطع أن تدميره قبل الحرب عبر أذرعها التي تزرع فيها كراهية الآثار، ورغبة تدميرها، وقد دمرت فعليا آثارا كثيرة في حضرموت وعدن والحديدة وتعز، لأهداف كثيرة كما يؤكد علوان مهدي الجيلاني، في حديث  خاص مع «العربي» «فما يفعله المتطرفون مرتبط بثلاثة أسباب: «الأول عقائدي، حيث يتم شحن هؤلاء ضد مفردات التراث بكل أشكالها بحجة أنها آثار صوفية أو شافعية تختلف عماهم عليه. السبب الثاني: أن القوى المحرضة من خارج اليمن تعتمد على فكرة أن طمس الأثر وإهانته يكسر حواضنه ويسهل استتباعها وزرع ما يريدونه فيها، السبب الثالث: أن المنفذين اعتادوا على قبض ثمن كل أثر يدمرونه فهم يصورون جرائمهم ويذهبون إلى الممولين لتقديمها إليهم بوصفها شواهد على كفاحهم، ويستلمون أموالاً طائلة يبنون بها المزارع والعمارات ويتزوجون طبعاً بشكل متكرر».
تأكيد الجيلاني، إشارة إلى أمر في غاية الخطورة وهو أن تفكيك هوية البلد عبر طمس آثاره ومكونات هويته يسهّل عملية كسره من جهة، ويسهل أمر جعله تابعا للجهة التي تمول هذه العمليات والتي لا تمتلمك أي تراث أو تاريخ، وجل ما يملكونه من آثار ورموز -كما تؤكد ذلك حفريات التاريخ- إنما هو في الأصل عائد إلى حضارات اليمن العريقة، ويشير الجيلاني، إلى أن «المسكوت عنه هو ضيق مرجعياتهم بخلو تاريخها من الأثر الباعث على الفخر، وهو سبب أثبتت الدراسات أنه فاعل أساسي في تحفيز دوافع محو الآخر وتدميره».
إن الممولين إذن لا يستهدفون الآثار بقدر ما يستهدفون فيها البعد الرمزي لكرامة هذا الشعب وهويته باعتباره آخر من وجهة نظرهم يتفوق عليهم بهذه الآثار، إنهم يدمرون الإنسان بامتداداته الحضارية والفكرية والروحية ليبدو مفرغا من محتواه لا يمتلك جدرا يستند إليه أو عصى يتوكأ عليها.


الخلفيات والأبعاد
كانت التيارات الدينية المتطرفة الممولة خارجياً تعمل على تدمير آثار البلد ومخطوطاته التاريخية وقبابه ومساجده وأضرحته منذ سبعينيات القرن الماضي، لكن بشكل محدود ومستتر، ثم بعد تسعينيات القرن الماضي، لاسيما عقب حرب 94  منحتها الدولة مطلق الشرعية والحرية بالتمدد في اليمن، لاسيما تلك القوى التي أسهمت في الحرب ضد الحزب الاشتراكي اليمني، مع قوات الرئيس الراحل علي صالح، وجعلتها تتمدد في القرى لتبث أفكارها وتعمل بمساعدة الأهالي بعد تشويش أفكارهم على تدمير تلك الآثار، لقد كان ذلك بمثابة المكافأة من نظام صالح لهؤلاء دون أن يتدخل في كبح جماحهم
.
يقول علوان الجيلاني: «إن بداية تدمير الآثار الروحية في اليمن يعود إلى عشرينيات القرن التاسع عشر الميلادي حين غزت تهامة أول هجمة وهابية، راح ضحيتها أكثر من ألف أثر تاريخي، ناهيك عن آلاف المخطوطات، التي كانوا يطمون بها الآبار، ولم ينقذ اليمن من تلك الهجمة إلا قوات الدولة العثمانية وقوات محمد علي باشا حاكم مصر، التي جاءت سنة 1845م، وطردت الوهابيين من تهامة».
ويضيف «الهجمة الثانية بدأت على استحياء منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي، ثم أسفرت عن وجهها في الثمانينيات واستفحلت في التسعينات وهاهي اليوم تبلغ ذروتها
».
مسجد الفازة
لقد التهمت الحرب، ومن قبلها إرهاصات التطرف آلاف المواقع الأثرية، وعشرات القطع التاريخية التي تعود إلى مئات السنين، وتشكل شاهدا حضاريا على نباهة اليمني ومدنيته وحبه للسلام وقوته أيضاً، ولعل آخر ما أنتجته الحرب هو تدمير مسجد الفازة، على أيدي قوى متطرفة، لقد بقي المسجد شاهدا على مدى الوعي الروحي والتسامح الديني بين الطوائف والفرق الدنيية في اليمن منذ مئات السنين، فقد ظلت الدول المتعاقبة في اليمن منذ مئات السنين محافظة عليه، مولية إياه القداسة والاحترام الذين يستحقهما، وقد أثارت هذه العملية الهمجية عددا من ردود الفعل لدى أدباء وناشطين وحقوققين وجعلتهم يطالبون بضرورة التدخل الدولي لكبح جماح القوى المتطرفة وإيقاف استنزاف الآثار وتدميرها، ويؤكد الجيلاني ذلك بقوله «نحن بصدد تقديم تقرير شامل لليونسكو»، ويرى أنه «لن يوقف جماح هؤلاء إلا تدخل دولي كما حدث في مالي، حين تم استهداف آثار تمبكتو
».
ولإيمانه أن الدولة في شكلها الحالي في تمام عجزها، يؤكد أن «الجهات المعنية إن لم تكن متواطئة فهي ساكتة عن الحق أو عاجزة عن قوله، وقد سبق أن ناشدناهم هم والتحالف بعدم تدمير مسجد عبد الهادي السودي في تعز، ومسجد الشاذلي، ومسجد حاتم الأهدل في المخا».
سلسلة طويلة
تدمير هذا المسجد ليس أول عملية تستهدف موقعا أثرياً أو معلماً تاريخياً في الفترة الأخيرة، فقد سبقته تدمير مساجد في تعز وعدن وحضرموت، لكن الجديد الآن هو الطمس الممنهج لهوية البلد ومكونات هويته دون رقيب، ولذلك معناه ومؤشراته الخطيرة التي يوضحها الدكتور فضل العميسي، أستاذ الآثار في جامعة ذمار بقوله في حديث خص به «العربي»: «إن تدمير مسجد أثري له معنى ومؤشر خطير جدا على مستقبل البلاد بشكل عام وعلى الآثار والتراث والقيم المجتمعية بشكل عام، فهذه الجماعات لا تحترم أي مقدسات عدى ما يناسب فكرها المتشدد
».
ويطالب العميسي «المنظمات الدولية ومنظمات المجتمع المدني والمثقفين الحفاظ على الممتلكات الثقافية والتاريخية وواجهة البلاد الحضارية عن طريق القيام بدورها في توعية المجتمع بأهمية هذه المباني، وأهمية الحفاظ عليها، بتمويل مشاريع الصيانة والترميم والحراسة، والأهم من كل ذلك الضغط على الحكومة والتحالف والمجتمع الدولي لكبح جماح الجماعات المتطرفة، وعدم السماح لها بتدمير تراث الوطن». ويوضح «لقد تعرض كثير من المواقع والمباني الأثرية في مختلف أرجاء الوطن للتدمير بصورة مباشرة، كما حدث في مسجد الفازة، وعدد من الأضرحة والزوايا في حضرموت وتعز وغيرها نتيجة ظروف الحرب والإنفلات الأمني؛ بينما تتعرض بقية المواقع في جميع أنحاء الوطن للنبش والنهب والتخريب، أو حتى التعدي عليها بالتشويه والتعديل، وهو موضوع يطول شرحه، لكن الخلاصة أن عدم تصدي المجتمع لهذه التداعيات على تراث وآثار الوطن سيؤدي إلى فقدنها وعدم تعويضها».
إن ما حدث لمسجد الفازة، يمثل فاجعة كبيرة من سلسلة فواجع مني بها اليمن، في زمن الحرب التي تسعى بشراسة إلى طمس هوية البلد، ويمثل مؤشراً خطيراً لما قد يحدث لآثار مدينة زبيد، التي باتت على مرمى حجر من قوى تتصارع دون حسبان لما قد تتعرض له هذه المدينة وآثارها العريقة ..

المصدر : العربي ..