الحديدة نيوز / أفراح بورجي
” نزحنا من حي الربصة بالحديدة والرصاص يتطاير من فوقنا، والقذائف تقع هنا وهناك”.
يستفتح علي سليمان أحمد ( 30عاماً ) حديثه بهذه الجملة، وكأنه لم ينسَ ذلك النزوح الشاق الذي لايزال عالقاً بذاكرته.
عاش “علي” حياةً قاسية، فبعد وفاة والده أصبح مسؤولاً عن رعاية إخوته الثلاثة وأمه العاجزة ، وهو لم يتجاوز العشرين عاماً آنذاك، وقد حاول جاهداً أن يكون نِعمَ المُعيل لأمه وإخوانه، ولكنه لم يكن يدرك تماماً أنها بداية المعاناة الأكثر مشقة وعناء.
صيف عام 2018م، ومع بداية الحرب الدائرة في مدينة الحديدة اشتدت المعارك، و قضت على أحلام الكثير من البسطاء ، واضطرت معظم العائلات في الحديدة ترك منازلها وأعمالها للنزوح إلى مستقبل مجهول خوفاً من بطش الحرب وأهوائها.
قضى علي وأسرته كل أعمارهم ساكنين في منطقة الربصة -الواقعة في أطراف مدينة الحديدة والقريبة من شارع المطار شرقًا وقرية منظر جنوباً – حيث دارت رحى الحرب فيهما وقضت على الكثير مما كان فيها، بل تسلَّلت القذائف والرصاص إلى منطقة الربصة حيث يعيش وأسرته مما جعلهم يبحثون عن ملجأً ينجون فيه بأرواحهم.
يصف بمرارة معاناته قائلاً “ضاقت علينا الحديدة واشتدّ الخناق ما بين فقر وحرب أنهكتنا جميعاً، خرجت مع أسرتي في وقت الظهيرة والرصاص يتطاير من فوق رؤوسنا وحرارة الشمس الحارقة تقتل ما بقي لدينا من أنفاس، فالأمر تجاوز حدود طاقتنا ولم نعد نقدر على البقاء هناك”.
ترك كل شيء خلفه ، بيتهم التي كان يأويهم ، وكُشْكه البسيط الذي يقتات منه وأسرته، وانطلقوا إلى العاصمة صنعاء أملاً في البقاء على قيد الحياة لا أكثر.
يكمل حديثه: “كانت صنعاء بمثابة الأمان لنا وللكثير من الأسر التي قررت النزوح حينها، ولكنه لم يكن لدينا مالاً لاستئجار حافلة (باص) تنقلني وأسرتي، لولا أن جارنا تعهَّد بنقلنا بباصه إلى صنعاء، وإلا كنا….” وقطَعَتْ حديثه تنهيدة ودموع جعلتنا نستشعر معنى الخوف من الموت والجوع والعيش بلا مأوى في آن واحد.
وبحسب تقارير المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين فإن عدد النازحين من الحديدة إلى العديد من الأرياف والمدن اليمنية كصنعاء وعدن وغيرها، بلغ حوالي 550 ألف شخص بما يقارب 80 ألف عائلة، نتيجة للقتال المستمر جنوب وشرق المدينة منذ يونيو 2018.
ووفقاً لتقارير المفوضية يختلف توزيع هؤلاء النازحين بحسب إمكاناتهم المادية فقليل منهم سكن شُققاً مؤجرة وفنادق أو توجهوا إلى ذويهم في حين الكثير منهم من الضعفاء والفقراء استقر بهم الحال في مخيمات لا تتوفر فيها مقومات الحياة البسيطة كما تنقطع عنها المساعدات الغذائية.
وجهة مجهولة
بعد أن وصل علي وأسرته إلى مدينة صنعاء -وبالتحديد في شارع الثلاثين- أحسَّ وقتها بالأمان من الحرب البائسة، ولكنه حينها عرف معنى الضياع، فقد بحث طويلًا عن بيت أو شقة يقيمون فيها، لكن الإيجار كان كبيراً جداً لدرجة أنه من الصعب توفيره في تلك الفترة، والرصيف لا يُحتمل العيش فيه أطول،
بعد ذلك قرر المجازفة واستأجر بيتاً بسيطاً جداً له ولعائلته بعد أن وجد شخصاً يكفله بدفع إيجار شهر واحد، ولكن لم يجد طوال شهرين عملاً يستطيع من خلاله توفير مبلغ الإيجار، أما أسرته فكانت بالكاد تستطيع العيش بالمواد الغذائية التي يحصلون عليها من المنظمات الإنسانية.
الرصيف مأوى
مرَّ شهران عليه ولم يقدر على دفع إيجار البيت ، وأن مهلة الدفع قد انتهت، مما دفع بصاحب البيت أن يطردهم من البيت ليعودوا مرة أخرى إلى الرصيف الذي احتواهم فور وصولهم من الحديدة يلتحفون فيه برد السماء ويتوسدون الحجارة والكراتين. ويشير “ما قدرنا ندفع الايجار لصاحب البيت، فرجعنا للرصيف مرة ثانية، والله كنا نرقد على الكراتين وما معانا حتى بطانية تدفينا”.
ليس علي وأسرته من ذاقوا هذه المرارة، فهناك العشرات من نازحي الحديدة الذي لا سند لهم غير الشارع يحويهم ويلمّهم، فمعاناتهم كثيرة ولا تنتهي، وما يخفيها إلا الصبر والتعفف والرضا بما كتبه الله لهم.
العودة للأرض
يسترسل علي شهقة موجعة، ويضيف قائلاً : أنه عندما حلَّ فصل الشتاء اشتدّت وطأة البرد كثيراً، حتى أنَّ أمه الطاعنة في السن لم تقدر على تحمُّل العيش في صقيع ورصيف، وأصابها من المرض ما أصابها ؛ فقرر العودة بأسرته إلى الحديدة حيث كانت الأخبار حينها تصلهم عن مفاوضات بين طرفي الحرب لعمل هدنة إنسانية للتخفيف عن سكان مدينة الحديدة، وعاد بأسرته لموطنهم وبيتهم، فـ”الموت في بيتك ومدينتك أرحم من الموت برداً على هذا الرصيف” كما يقول.
لم يستمر مكوثه في الحديدة طويلاً حتى عاد لصنعاء مرة أخرى، ولكن هذه المرة بمفرده.. لقد عاد إلى صنعاء بعد أن يئسَ من الحصول على عمل في الحديدة لاسيما بعد أن أقفلتْ الكثير من المحلات التجارية أبوابها وانتقل مُلَّاكها أيضاً لمدن أخرى ، بعد أن ضاق اتساع الحديدة حتى عليهم، فكيف بعلي وهو المستضعف الفقير.
من يساعدني غير نفسي؟!
حين عاد لصنعاء كان قد أيقن أنه من المستحيل أن يجد عملاً هناك؛ فتجربته التي عاش أسفارها في صنعاء كانت قد أرهقته كثيراً، ولكنه عاد لصنعاء وقد باع ما بقيَ من حُلي أمه ليفتتح صندقة (كشك) يبيع فيها بعض الملابس والأدوات؛ فهو الأب والسند لأسرته..
ويقول ” عندما رجعت لصنعاء كنت يائساً من أن لا أحصل على عمل ، بِعنا ما بقى من ذهب الوالدة، وقررت أفتح صندقة أبيع فيها ما تيسّر شراءه لأحصل منه على رِبح يكفي أن أشبع منه أمي وإخوتي” .
لم تكن المعاناة التي عاشها مع أسرته قليلة، فقد لقي ما لقي من الهموم والمآسي والويلات، وأصبحت كل أحلامه الآن أن يشبع جوع أسرته..
يختم علي حديثه متسائلاً “هل سيكتفي الساسة عند هذا الحدّ ؟ “.