الحديدة نيوز / كتب / نبيل العامري
تظل قصائد (عزاف الأسى) القادم (من أرض بلقيس)، حاضرة في وجدان الشعب اليمني مع كل نكبة أعيت كاهله، وكل بسمة ارتسمت على ثغره الوضاء؛ فعندما نقرأ أو نستقرئ شعر (البردوني) نجد ذلك الإنسان الذي عصرته الحياة وعصرها أدبا وشعرا، حينها يخضر يباس مشاعرنا الضمأى على الرغم من بؤس الواقع المعاش.
هنا، ومع احتفاء اليمن الحبيب عامة، والحديدة على وجه الخصوص، بذكرى المولد النبوي على صاحبه أفضل الصلاة والسلام؛ نجد البردوني حاضرا بشعره، مسجلا التاريخ بصفحات من نور مليئة بالدروس والعبر، ليستعرض فيها (يقظة الصحراء) بعد (ميلاد الربيع) وبزوغ (فجر النبوة) وقد صاغته (بشرى النبوة) لتنبئ الوجود أن الفجر (فجران): فجر هدى، وفجر حنان.
من ساحةِ الأصنامِ والأوثانِ
من مسرحِ الطاغوتِ والطغيانِ
من غابةِ الوحشيةِ الرعنا ومن
دنيا القتالِ وموطنِ الأضغانِ
من عالمِ الشرِّٖ المسلّحِ حيث لا
حكمٌ لغيرِ مهندٍ وسنانِ
هكذا يفتتح البردوني قصيدته (فجران) مستعرضا المشهد الجاهلي الذي انبثق منه نور سيد المرسلين بدقة متناهية اختزلها في أبيات ثلاث، وكأنه ينبئنا عن تفاصيل الجاهلية الأخرى حيث يرى البعض أن الاحتفال بالمولد النبوي “بدعة”، بينما تخر ذقونهم وجباههم لأصنام وأوثان يقبلون تراب أقدامها، حاملين الضغينة والبغضاء على رسول الإسلام وحاملي هذا الدين، نافثين سموم أحقادهم على جثث الأبرياء والموجوعين ويشرعنون قتلهم، وهم بذلك يرقصون على إيقاع الدراهم، مبررين فتاواهم بمنطق غير ممنطق.
إن احتفاء المسلمين بمولد الرسول الأعظم- صلوات الله وسلامه عليه- لهو أقل واجب تجاه من محيت بمجيئه ظلمات الكفر والضلال، وبزغت به تباشير الهدى والرشاد، وهو أجدى سبيل لتجديد الولاء لرسول الأمة ومعلمها، كيف لا؟ وقد احتفت به السماوات والأرض وكل الكائنات، وفي ذلك يقول الشاعر في قصيدته (فجر النبوة):
يا فجر َميلادِ النبوةِ هذه
ذكراكَ فجرٌ دائمُ الميلادِ
وتهلل الفجرُ البهيجُ كأنه
حفلٌ من الأعراسِ والأعيادِ
ويمضي (البردوني) في رسم حياة النبي والعقبات التي مر بها، ليجسد في ذات القصيدة انبلاج النور ببعثة سيد المرسلين، الذي خبت به سنون من الظلم والطغيان والضلالة، ليجمع الناس على غاية واحدة وهدف سامي، على ملة سمحى وحب صافي:
بَعَثَ الرسولُ من التفرقِ وحدةً
ومن العدا القاسي أرقَ ودادِ
فتعاقدتْ قومُ الحروبِ على الصفا
وتوحدتْ في غايةٍ ومرادِ
ومحى ختامُ المرسلين عن الورى
صلفَ الطغاةِ وشرعةَ الأنكادِ
*البردوني.. ومعالم الحاضر*
لعل ما شد انتباهي، تنبؤ البردوني – الأعمى الذي رأى ما لم يره المستبصرون- بما ستؤول إليه الأحداث في الساحة اليمنية، وتجلياتها في حاضرنا المعاش، حيث ينظم ذلك في قصيدة (بشرى النبوة) بقوله:
أرض الجنوب دياري وهي مهد أبي
تئن ما بين سفّاحٍ وجزّارِ
يشدها قيدُ سجانٍ وينهشها
سوطٌٌ ويحدو خطاها صوتُ خمار
تعطي القيادَ وزيراً وهو متجرٌ
بجوعها فهو فيها البائع الشاري
هذه الأبيات، تضعنا أمام مشهد القمع وضراوة العدوان في جنوب بلدنا الحبيب الذي يحيا تحت رحمة العدوان السعودي الإماراتي وقد بان قبحه وتجلت دناءته، وما يلاقيه إخوتنا هناك من تنكيل واغتصاب في سجونهم المتعفنة بدماء وأشلاء الضحايا التي نهشتها سياط العدو وصلفه.. ويمضي البردوني متسائلا:
فكيف لانت لجلاد الحمى “عدنٌ”؟
وكيف ساس حماها غدرُ فجار؟
وقادها زعماءٌ لا يبررهم
فعلٌ وأقوالهم أقوالٌ أبرار
أشباه ناسٍ وخيرات البلاد لهم
يا للرجال وشعبٌ جائعٌ عاري
أشباه ناس دنانير البلاد لهم
ووزنهم لا يساوي ربعَ دينار
ولا يصونون عند الغدر أنفسهم
فهل يصونون عهد الصحب والجار؟
إن تلخيص الشاعر لهمجية الغزاة الساعين لنهب ثروات البلاد، وشرعنة فضائعهم باسم الشعب، تبرزه واقع الحياة التي تمر بها (عدن) الحبيبة وما حولها من محافظات مازالت ترفل في قيود العدوان وتبعيته، واستحواذه على حقوق أبناء اليمن الضارب جذوره في أعماق التاريخ، فيما من يتحكمون بمصائرهم لم يكن لهم وجود في الخارطة العربية حتى ثلاثينيات القرن الماضي، وقد صدقهم البردوني بقوله: “ووزنهم لا يساوي ربع دينار”.
ويسترسل البردوني في وسم المرتزقة الذين فضلوا الجنوح للمستعمرين على حساب وطنهم الجريح، النازفة أحشاؤه، ويتسترون بألقاب ظاهرها التفاني من أجل الوطن، وباطنها سموم ينفثونها في أرواح الأبرياء والمغرر بهم..
يشرون بالذل ألقاباً تسترهم
لكنهم يسترون العار بالعار
تحسهم في يد المستعمرين كما
تحس مسبحة في كف سحار
والناس شرٌ وأخيارٌ وشرُهُمُ
منافقٌ يتزيَّا زيَ أخيار
في ثغرهِ لغةُ الحاني لأمتهِ
وفي يديه لها سكينُ جزارِ.
*دروب اليقظة في شعر البردوني*
لم يكن البردوني (عابر سبيل) في حياتنا، فهو شاعر كل العصور، شاعر لم تغب عنه ما سيتأتى إليه حياة اليمنين، فثار وجدانه وبرزت قريحته، ليخط بأنامله التي أعياها (رواغ المصابيح) دروب اليقظة لهذا الشعب البائس الموجوع، بلغة فيها من الحكمة والقوة والحنان ما يمكن أن تجتاز به الأرض محنتها وتلملم به شعث أحزانها المتخمة، وهو إذ ذاك ينذر الأعداء أنه مهما طال جوركم وبطشكم فإن إرادة الشعب لن تنكسر وأن ثباته لا ينكفئ، فيقول:
ويلٌ وويلٌ لأعداء البلاد إذا
ضجّ السكونُ وهبّت غضبةُ الثارِ
فليغنم الجورُ إقبالَ الزمانِ له
فإن إقبالَه إنذارُ إدبارِ
حقد الشعوب براكينٌ مسممةٌ
وقودها كل خوّان وغدّار
من كل محتقرٍ للشعب صورته
رسمُ الخيانات أو تمثالُ أقذار
بين الجنوب وبين العابثين به
يومٌ يحن إليه يومُ ذي قار
ويستطرد البردوني في قصيدته (فجران)، أن على شعبنا أن يثأر من أعدائه، وأنه قد حان الوقت ليخرج سيفه من غمده ويشهره في نحر عدوه، منذرا كل من يتوانى عن ذلك..
والحق لا تحميه إلا قوةٌ
غضبى كألسنةِ اللهيبِ القاني
والأرض أمُّ الناسِ ميدان الوغى
والعاجزون فريسة الميدان
والمجد حظ مدرّبٍ ومسلّحٍ
والموت حظ الأعزل المتواني
وأخيرا.. عذرا رسول الله، إن كان الاحتفال بمولدك بدعة كما يقول عباد الدنانير.
عذرا رسول الله، إن نحن جددنا حبنا لك في قلوبنا، عذرا.. إن تناسينا معاناتنا وأوجاعنا ومآسينا واتجهنا لنطببها بالاحتفاء بذكرى مولدك الشريف.
عذرا رسول الله إن نحن ثأرنا من أعدائنا واستفززناهم بتمسكنا بك وبسنتك..
يا أحمدَ النور عفواً إن ثأرت ففي
صدري جحيم تشظّت بين أشعاري
“طه” إذا ثار إنشادي فإن أبي
“حسان” أخباره في الشعر أخباري
أنا ابن أنصارك الغر الألى قذفوا
جيش الطغاة بجيشٍ منك جرار
تظافرت في الفدى حوليك أنفسهم
كأنهنّ قلاعٌ خلفُ أسوار
نحن اليمانين يا “طه” تطير بنا
إلى روابي العلى أرواح أنصار
إذا تذكرت “عمارا” ومبدأه
فافخر بنا أننا أحفاد عمار
“طه” إليك صلاة الشعر ترفعها
روحي وتعزفها أوتار قيثاري