|
الحـــديدة نيوز – كتب- بشير القاز
في خطوة لم تفاجئ أحدًا سوى من يصرّون على تجاهل التاريخ سارع الكيان الصهيوني غداة سقوط نظام بشار الأسد وكأنه في سباق ماراثوني، ليس لجمع الغنائم، بل لـ” استثمار الفوضى لصالح مشروع الضم والتوسع، سواء بالمقايضة مع أي نظام سوري جديد أو بمواصلة سياسة فرض الأمر الواقع ..
فتوغّل في القنيطرة، واحتل قمة جبل الشيخ السوري، وسيطر على المنطقة العازلة عند خط وقف إطلاق النار في الجولان والذي تبلغ مساحتها (235 كيلومترا مربعا) وكل ذلك تحت لافتة قديمة لكنها متعددة الاستخدامات: “الدواعي الأمنية والدفاعية” .. تفاصيل في السياق التالي :
لم يكتفِ كيان الاحتلال الصهيوني بالاستيلاء على الجغرافيا، جنوبي سوريا ، بل قرر إعادة تصميم موازين القوى أيضًا، عبر قصفٍ مكثف في طول وعرض البلاد تحت شعار “تدمير الجيش السوري”، وكأن جيش الأسد كان يُشكل تهديدًا مباشرًا طوال العقد الأخير ، أما الذريعة فهي ذاتها: منع تسرب سلاح استراتيجي ليد (المتشددين والمتمردين ) وكأن الصراع في سوريا ينقصه وصاية إضافية من تل أبيب على من يُسمح له بالتسلّح ومن لا يُسمح له بذلك.
مخططات متسلسلة بدعم أمريكي
أثبتت تطورات الوقائع والأحداث على مستوى المنطقة خلال الآونة الأخيرة أن ما يجري في غزة، وما جرى في لبنان، وما يحدث في سوريا، ليس سوى حلقات في مسلسل طويل، كتبته واشنطن وأنتجته تل أبيب، بينما تُجبر الدول العربية على لعب أدوار الكومبارس والهدف واضح: تطويع المنطقة بالكامل، بحيث تتحول الدول العربية إلى مجرد ساحات اختبار للسياسات الأمريكية، وسط تصفيق حلفائها في حين أن الخطر لن يتوقف عند سوريا أو دول الطوق مع الكيان فهناك دولا عربية ستكون الحلقة التالية في السلسلة، إذ ينتظر دورها بصبر بعد سوريا، وربما يُعاد النظر في بعضها بشكل مؤقت فقط لأن “الإخراج” لا يزال قيد التطوير .
مع كل ذلك يبقى الأمر المؤسف جدا والذي يمكن وصفه بالغباء الفاحش أن تظل الدول العربية تتعامل مع كل هذه الأحداث كوقائع منفصلة، بينما تؤكد الكثير من الحقائق أنها جزء من مخطط تتداخل فيه مصالح ومطامع الولايات المتحدة، وكلبها المدلل الكيان الصهيوني وربما طرف “غير مرئي”، قد يكون الشيطان نفسه، أو أحد أقنعته السياسية كبريطانيا ودول أوروبية أخرى.
من الفوضى إلى التقسيم
بالنسبة للكيان الصهيوني، سورية ليست مجرد قطعة أرض محتلة، بل كنزٌ استراتيجي متعدد الفوائد: موقع عسكري مرتفع يتيح له مراقبة الجوار ومصدرٌ غني بالمياه العذبة في منطقة تعاني من ندرة الموارد، وأراضٍ خصبة تصلح للزراعة والاستثمار .. وببساطة فإن السيطرة على سوريا أشبه بجائزة كبرى حصل عليها العدو الإسرائيلي ويرى أنه من العبث التخلي عنها لمجرد أن القانون الدولي يقول إنها “أراضٍ محتلة” .. ولا غرابة في هذا الموقف وفي هذه النظرة الصهيونية لسوريا كون أطماع العدو الصهيوني لا تتوقف عند الجغرافيا، بل تمتد إلى التحكم بالمنطقة ككل، وفق رؤية سبق أن بشّر بها أحد أبرز رموز السياسة الصهيونية “شمعون بيريس” بحيث تصبح “تل أبيب” القاطرة التي تجر اقتصاد المنطقة، وتضع يدها على مفاتيح تطورها التكنولوجي ولهذا، يحرص الكيان الصهيوني، على الاستثمار في تشجيع استمرار الفوضى والانقسامات داخل سوريا ويرى اليوم في سوريا الفرصة الذهبية لتوسيع نفوذه وفرض دوره كقوة إقليمية مهيمنة، تمامًا كما فعل مع الجولان: السيطرة أولًا، ثم الانتظار حتى يأتي من يُصادق على الأمر، وكأن الاحتلال مسألة وقت لا أكثر.
الكيان والجولان.. من “أبو المياه” إلى “أبو المنتجعات
منذ نشأة الكيان الصهيوني وضع عينه على مرتفعات الجولان، ليس فقط لأنها تطل على ثلاث دول، ولكن لأن ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لدولة الاحتلال رأى في جبل الشيخ “أبو المياه”، وليس من عادة الكيان الصهيوني أن يترك مصادر المياه بسلام، خصوصًا إذا كانت تروي أراضي غيرها ففي حرب 1948، حاولت قوات الاحتلال ابتلاع الجبل، لكن الجيشين السوري واللبناني أفسدا عليها الوليمة، فانتظرت حتى عام 1967، حيث قامت بالهجوم مجددًا ونجحت في قضم 100 كيلومتر مربع من المنحدرات الجنوبية والغربية، ثم سارعت لتحويل المنطقة إلى موقع محصن ومركز عسكري متقدم لمراقبة كل من تسوّل له نفسه النظر إلى الجولان على أنه “سوري” لكن الكيان الصهيوني لا يحتل فقط، بل يطوّر ويبدع، فقد قسمت الجولان إلى مناطق استيطانية، وأعدّ سفوح جبل الشيخ للسياحة، ليساعد “أبو المياه” في أن يصبح أيضًا “أبو المنتجعات”، حيث يمكن للمستوطنين التزلج على ثلوج الجبل المحتل، بينما تراقبهم قوات الاحتلال من أعلى نقاطها العسكرية، تحسبًا لأي “كرات ثلجية” قد تتدحرج في الاتجاه الخطأ في حين حرب أكتوبر 1973 كادت تقلب الطاولة، حيث استعاد الجيش السوري الموقع، وأسَر جنودًا إسرائيليين كانوا مشغولين على ما يبدو برؤية الجولان من منظور “مدني” لكن قبل أن تنتهي الحرب، استرجع الاحتلال الجبل، وأعاد ترتيب أوراقه ليبقى قائمًا بشكل أكثر “أناقة”، خصوصًا بعد اتفاقية فض الاشتباك عام 1974، التي أبقت قوات الأمم المتحدة في المشهد، وكأنها “حارس عقار” دولي يشرف على الوضع.
عندما تصبح السرقة خطة استراتيجية
لا تقتصر أطماع الاحتلال الإسرائيلي على الأرض والموارد، بل وصلت إلى إعادة تدوير التاريخ بمنطق “كل شيء لنا منذ الأزل” فمنذ عام 1919، عندما قدّمت “المنظمة الصهيونية” مذكرة إلى مؤتمر السلام، أعلنت أن “جبل الشيخ هو أبو المياه الحقيقي لفلسطين”، وكأنهم يطالبون بحقوق ملكية على الطبيعة نفسها وفي 8 ديسمبر 2024، وبينما كانت الفوضى تعم دمشق، وجد الاحتلال الإسرائيلي أن الفرصة الذهبية قد حانت للاستيلاء على جبل الشيخ، وكالعادة، لم يحتجِ إلى مبررات جديدة، بل اكتفى بحيلة “ملء الفراغ” وبلمسة احتلالية سحرية، ألغى نتنياهو اتفاق “فضّ الاشتباك” مع سوريا واستولى على المنطقة العازلة، التي تبلغ مساحتها 235 كيلومترًا مربعًا، كما لو كان يوسّع باحته الخلفية في الجبل الذي يشرف على أربع دول، وقرر الكيان الذي لم يكن قادرا على التجسس بما يكفي، أن يجعل من الجبل منصة مراقبة جديدة لطائراته المسيرة، وربما مستقبلًا لمحطة فضائية، إذا استدعى الأمر فـ إسرائيل لا تسرق فقط، بل تسرق بأناقة فبعد السيطرة على جبل الشيخ، سارع المستوطنون للصعود إليه، ليس لمجرد الاستمتاع بالثلوج، بل لإقامة طقوس دينية، في خطوة تؤكد أن أي منطقة تُسرق تحتاج إلى تبرير “مقدس” ومع ذلك، لم يكن الدافع دينيًا فقط، فصحيفة معاريف لم تتردد في كتابة عنوان عريض: “الحرم الثلجي… الحلم المتجدد”، وكأننا أمام حملة تسويق لموقع سياحي جديد، لا عملية احتلال.
الحرب بالمياه بدلًا من الرصاص
السيطرة الصهيونية على جبل الشيخ لم تكن فقط بسبب موقعه الاستراتيجي أو قيمته الدينية، بل بسبب مورد أكثر أهمية: المياه فمنذ نشأة كيان الاحتلال أدرك أن مشروعه لن يصمد دون احتكار الموارد المائية كيف لا، وشارون نفسه كتب في مذكراته أن حرب 1967 كانت بسبب محاولات سوريا تغيير مسار نهر الأردن فالاحتلال لطالما مارس حرب “التعطيش” ضد الفلسطينيين، فالمستوطن يستهلك أضعاف ما يستهلكه الفلسطيني، وإن سُمح للأخير بالحصول على المياه، فهي غالبًا ملوثة بمخلفات المستوطنات وإذا كان جبل الشيخ يغذي الأنهار وينابيع المياه العذبة، فمن المنطقي أن تكون إسرائيل بحاجة إلى “شرعنته” كموقع صهيوني أصيل.
إسرائيل الكبرى.. من خرافة إلى مشروع
لطالما كانت “إسرائيل الكبرى” فكرة صهيونية تُطرح بين الحين والآخر كحلم بعيد المنال، لكنها اليوم تقترب أكثر من كونها مشروعًا قيد التنفيذ، مستفيدة من الفوضى في المنطقة وغياب أي رادع حقيقي فما كان يُعتبر “أوهامًا استعمارية” صار هدفًا استراتيجيًا لليمين الصهيوني المتطرف، الذي يبدو أنه قرر توسيع خارطة الاحتلال من النيل إلى الفرات، مرورًا بكل ما يمكن ضمّه “بشكل مؤقت” ريثما يصبح نهائيًا فالأطماع الإسرائيلية لا تبدأ من العدم، فهي مثل تطبيق الخرائط: تبدأ بنقطة، ثم تتوسع عند كل منعطف سياسي جديد فبعد 1948، توسّع الاحتلال الصهيوني قليلًا، ثم في 1967 ابتلع ما استطاع، ومع كل حرب أو أزمة جديدة، يضيف المزيد من الأراضي إلى “إدارته المؤقتة”، التي تُصبح لاحقًا جزءًا من “حدوده الطبيعية”، قبل أن تتحوّل إلى مشروع استيطاني فاخر، وربما وجهة سياحية مستقبلاً فمنذ زمن بعيد، رسمت الروايات التوراتية خرائط فضفاضة لـ”إسرائيل الكبرى”، تتراوح بين “من نهر مصر إلى الفرات” و”من النيل إلى الفرات”، وكأن الجغرافيا تُرسم وفق المزاج السياسي لكن المشكلة أن هذه الحدود لم تظل مجرد أسطورة، بل تحوّلت إلى شعار انتخابي وأداة تحريضية للمتطرفين الذين وجدوا في الفوضى الإقليمية فرصة ذهبية لتحويلها إلى واقع فإسرائيل، التي تتعامل مع الأزمات كفرص توسعية، وجدت في انهيار سوريا، وتفكك العراق، وإشغال لبنان بحروبه الداخلية، فرصة ذهبية للعودة إلى مشروعها القديم بنسخة “مُحدثة” ومع إبادة غزة المستمرة، يبدو أن حلم وخرافة ما يسمى بـ”إسرائيل الكبرى” لم يعد مجرد فكرة هامشية، بل هو مشروع يجد طريقه إلى التنفيذ، قطعةً قطعة، تحت غطاء أمني هنا، وتبرير استيطاني هناك، وسياحة عسكرية في أماكن أخرى.
خريطة توسع بالدبابات
الكيان الصهيوني المحتل الذي ولد بلا حدود واضحة، قرر أخيرًا أن يضع خريطة لنفسه ولكن على طريقته الخاصة: بالدمار والتهجير والتوسع العسكري فما بدأ كـ”حلم”صهيوني توراتي لأرض تمتد من النيل إلى الفرات، أصبح اليوم مشروعًا سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا يتمدد تحت عناوين مثل “المناطق العازلة” “المستوطنات”، و”الضرورات الأمنية” ففي القرن الماضي كانت الجيوش الأوروبية ترسم الخرائط بالمسطرة، غير أن دولة الاحتلال فضلت اللجوء إلى الأساليب الأكثر إبداعًا: الاحتلال.. الضم..والاستيطان” فمنذ عام 1948، لم يسبق أن حددت الأخيرة حدودها، لأن فكرة رسم الحدود تقيد الطموحات بالنسبة للكيان الصهيوني، الذي يؤمن بأن الخرائط يجب أن تُرسم بالدبابات وليس بالحبر وبرغم أن مصطلح خرافة”إسرائيل الكبرى” لم يكن أبدًا جزءًا من الخطاب الرسمي، إلا أن كيان الاحتلال لم يضيّع فرصة لاحتلال أي أرض مجاورة، بدءًا من سيناء ومرورًا بالجولان والضفة الغربية، وصولًا إلى “المنطقة العازلة” في لبنان، وسوريا.
مخطط سياسي صهيوني محكم
قد يبدو الأمر للبعض كأنه سيناريو خيالي من العهد القديم، لكنه في الواقع مخطط سياسي صهيوني محكم يقف خلفه اليمين الصهيوني المتطرف، الذي وجد في خرافاته وأساطيره التوراتية برنامجًا انتخابيًا جاهزًا، يعمل جاهدًا على تنفيذ “الوعد الوهمي ” على الأرض خريطة أكذوبة”إسرائيل الكبرى”فالتصعيد الصهيوني الأخير باتجاه سوريا يذكرنا بما ظهر على لسان وزير المالية بتسلئيل سموتريتش في باريس عام 2023، والتي لم تكن مجرد زلة سياسية، بل إعلان نوايا مدعوم بجرافات المستوطنين في الضفة الغربية وأحلام استيطانية في غزة ففي لبنان، يتحدث الكيان الصهيوني عن منطقة عازلة، بينما يتحدث مستوطنوها عن “حقهم التاريخي” في الجنوب اللبناني.. أما في سوريا فقد قرر بعض المتدينين الأرثوذكس الصعود إلى قمة جبل الشيخ المحتل وإقامة احتفال ديني هناك، ربما كإعلان غير رسمي عن “التحرير الروحي” للأراضي السورية أما واشنطن، فقد سارعت لطمأنة الجميع بأن الاحتلال الإسرائيلي لسوريا “لن يكون دائمًا”، وهو تصريح يعيد للأذهان تأكيدات العدو الإسرائيلي عام 1967 بأن احتلال الضفة والجولان كان “إجراءً مؤقتًا”، قبل أن يصبح أمرًا واقعًا، تمامًا مثل “المستوطنات المؤقتة” التي تتحول بقدرة قادر إلى مدن صهيونية كاملة في ظل كل هذه الوقائع لم يعد السؤال المهم “هل يسعى الكيان الصهيوني إلى التوسع؟” بل أصبح “ما الذي سيوقفه؟.. هل هو القانون الدولي؟… بالتأكيد لا…..فقد أثبت التاريخ والتجارب أن الكيان الصهيوني يراه مجرد اقتراح…هل هو الرفض الدولي؟ ..لا يبدو ذلك..فالولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا منشغلة بإصدار خرائط التوغل والسيطرة مع الحفاظ على إصدار بيانات”القلق العميق” لإهانة القطيع العربي.
النفط لواشنطن والماء لتل أبيب
بينما تواصل قوات الاحتلال الإسرائيلي تدمير ما تبقى من الجيش السوري وكأنها تمارس لعبة “تكسير العظام” على مستوى إقليمي، قررت واشنطن أن تلعب دور المقاول الحصري في إعادة تقسيم الكعكة، فشرعت في بناء قاعدة وسط مدينة عين العرب – كوباني، تمامًا كما تبني سلسلة مطاعم جديدة في سوق مربح وقد ظهر ذلك بصورة واضحة المعالم بعد سقوط نظام الأسد في ديسمبر الماضي، حين دخلت تعزيزات أمريكية إلى سوريا بأريحية تامة، وكأنهم ينقلون بضائع في سوق حرة، حيث تدفقت 400 شاحنة و18 طائرة شحن محملة بكل ما يلزم لإنشاء قاعدة متكاملة، بدءًا من الغرف مسبقة الصنع، وصولًا إلى كاميرات المراقبة وآلات الحفر، التي يبدو أنها ستستخدم لتأسيس “المقر الدائم للاستثمار النفطي غير الشرعي” أما جنوبًا، فالكيان الصهيوني قرر ألا يترك شيئًا للمصادفة، فبينما تسيطر أمريكا على النفط، لماذا لا تستحوذ هو على المياه؟..لهذا وجد جيش الاحتلال الإسرائيلي أن “سد المنطرة” في القنيطرة يمكن أن يكون إضافة رائعة لمجموعة “مقتنياته” من الموارد العربية، فقرر ببساطة السيطرة عليه ومنع دخول وخروج السكان إلا بإذنه.. ورفع السواتر الترابية، وكأنه يعيد إنتاج نسخة محلية من حصار غزة، ولكن هذه المرة على الأراضي السورية وفي مشهد يبدو وكأنه مشهد مقتبس من فيلم “السطو المسلح”، دخلت قوات الاحتلال الإسرائيلي إلى المباني الحكومية في القنيطرة وطردت الموظفين تحت ذريعة التفتيش وفق نظام “التفتيش العقاري” على الطريقة العسكرية وفي ظل كل هذا، خرج نتنياهو ليعلن بلا خجل أن “تعزيز الجولان هو تعزيز لدولة الوهمية المحتلة”، ما يعني أن الاحتلال، بحد ذاته، صار مشروعًا تنمويًا في قاموس الحكومة الصهيونية فبينما تعيش سوريا واحدة من أعقد الحروب في التاريخ الحديث، يبدو الكيان الصهيوني وأمريكا وكأنهما في جولة تسوق واسعة: واشنطن تأخذ النفط، وتل أبيب تختار الماء، والشعب السوري… عليه أن يبحث عن شيء آخر، ربما الهواء، إذا لم تقرر القوى الكبرى خصخصته قريبًا.
نتنياهو “حامي الدروز”
لم يحتج رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو إلى أكثر من ساعات قليلة بعد سقوط نظام الأسد ليخرج بتصريحاته “الودية” تجاه دروز سوريا، حيث أعلن بوجه مبتسم وكأنما اكتشف فجأة روابط الأخوة قائلاً: “نمد يد السلام إلى جيراننا الدروز في سوريا فـ تصريحات نتنياهو لم تكن مجرد زلة لسان أو لحظة تأمل فلسفية في وحدة المصير، بل جاءت كمقدمة لسلسلة من التحركات الميدانية والعروض المغرية، التي تشمل فتح الحدود أمام الشباب الدرزي للعمل داخل “إسرائيل”، وكأن تل أبيب تحولت إلى جمعية خيرية تهدف إلى إنقاذ السوريين من البطالة ويبقى السؤال هل فعلاً “دولة الإجرام الصهيونية” قلقة على معيشة الدروز في السويداء؟… أم أن هذا الاهتمام المفاجئ هو مجرد نسخة جديدة من مشروعها القديم الذي يعود إلى الثلاثينيات، حين حاولت تهجير دروز فلسطين إلى سوريا لإنشاء “دولة درزية” تخدم مصالحها؟..لنعد بالزمن إلى الوراء قليلاً، إلى عام 1939، حين فكرت القيادات الصهيونية في إعادة ترتيب المشهد الديمغرافي في فلسطين وجوارها والفكرة ببساطة كانت تقوم على نقل الدروز من الجليل والكرمل إلى جنوب سوريا، مع وعد بكيان مستقل خاص بهم، بشرط واحد فقط: أن يكون هذا الكيان تحت الوصاية الصهيونية ، تماماً كما هو الحال مع مشاريع “الحكم الذاتي” التي تطرحها اليوم ولسوء حظ الصهاينة ، لم تنجح الخطة، فقد رفضها الزعيم الدرزي سلطان باشا الأطرش، ومعه معظم الدروز، الذين فضلوا البقاء سوريين على أن يتحولوا إلى بيادق في لعبة التقسيم الصهيونية بعد مرور أكثر من ثمانين عاماً، يحاول الكيان الصهيوني اليوم مجدداً بيع البضاعة نفسها لكن بعبوة جديدة، إذ صرّح وزير جيش الاحتلال يسرائيل كاتس بأن تل أبيب لن تسمح للجيش السوري الجديد بالتمركز في جنوب البلاد، بينما جاء وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر ليقترح “سوريا فيدرالية”، أي بلغة أوضح: تقسيم سوريا إلى دويلات متناحرة تخدم أمن “الكيان المحتل” وفي خطوة تثير الاستغراب (أو الضحك)، أعلن مساء السبت الماضي ما يسمى برئيس وزراء الاحتلال الصهيوني بنيامين نتنياهو بأنه لن يتسامح مع أي تهديد للطائفة الدرزية في سوريا، مؤكدًا أن جيش الإحتلال “مستعد للدفاع” عن بلدة جرمانا قرب دمشق نعم، لقد قرأتم جيدًا: إسرائيل قررت فجأة أن تصبح حامية الدروز في بلد لا تنتمي إليه، وكأنها منظمة إنسانية مرهفة الإحساس، وليست دولة احتلال تفتك بشعب فلسطين منذ عقود فـ نتنياهو، الذي يسكن في منزل تم بنائه على أرض مغتصبة يطالب الجيش السوري بمغادرة جنوب سوريا، في مشهد يذكرنا بشخص يقتحم بيتك ثم يطلب منك المغادرة لأنك “تهدد سلامة الأثاث .
جمهور مسرحية الاحتلال والتصفية
في النهاية، المنطقة تُعاد صياغتها بما يلائم المد الصهيوني ، بينما تتبخر حقوق الشعوب العربية في الهواء، وسط محاولات ضخمة لإخضاع الجميع دون استثناء المشهد مألوف، والنتيجة معروفة سلفًا، لكن العرب -للأسف- ما زالوا يذهبون لمشاهدة الفيلم نفسه، وكأنهم يتوقعون نهاية مختلفة فإذا كان العدو الصهيوني يتعامل سابقًا مع محيطه الإقليمي كمسألة تحتاج إلى “إدارة ذكية”، فقد جاء طوفان أكتوبر 2023 ليجعلها أكثر وضوحًا في أهدافها: لا تهديدات، لا جيران أقوياء، ولا حتى كيانات يمكن أن ترفع رأسها مستقبلًا ببساطة، يريد الكيان اللقيط خريطةً مريحةً لأعصابه، حيث تكون دول الطوق مجرد مساحات خالية من أي كيان قد “يزعج” أمنها القومي، سواء كان حكومة شرعية، أو جماعة مقاومة، أو حتى مجموعة من المزارعين يحملون فؤوسهم بطريقة “مريبة ومن “المفارقة أن البعض لا يزال يتعامل مع كل هذه الأحداث على أنها “أزمات منفصلة”، وكأن تدميرغزة، وضرب لبنان، واحتلال سوريا، كلها مجرد صدفة جيوسياسية ولهذا نرى البعض من العرب يتفرجون، وبعضهم يقتنع بأن دوره لن يأتي أبدًا والأمر الأكثر سخرية أنهم لا يزالون يذهبون لمشاهدة الفيلم نفسه، رغم أن نهايته كانت دائمًا كارثية هل يتوقعون أن يغير المخرج السيناريو فجأة؟ …..أم أنهم مقتنعون بأن لعب دور الجمهور هو الخيار الوحيد؟… لقد حان الوقت للتوقف عن التصفيق، لأن العدو لا يحتاج إلى مشاهدين، بل إلى مقاومة تخرجه من المشهد نهائيًا.