|
بلا عائل.. في مهب الريح
كتب: عبد الله البيتي
مارس 2015 أصوات طائرات، وصواريخ، ونيران تلتهب في أجواء اليمن. صمت وذهول مطبق من الشعب، ومن العالم أيضًا، وآراء مختلفة منقسمة حول ما يجري، أرقام تنشر هنا وهناك من منظمات وجهات وكيانات مختلفة عن الموتى والمفقودين، وعمن بات يتضور جوعًا، ويكتوي بتداعيات هذه الحرب. لم ننتهِ هنا بالرغم أنها حياة ليست سهلة في ظل حرب لا تحتمل، برز إلى السطح بعدها بخمس سنوات أي في العام 2020 كوفيد 19 ليكمل ما كان متبقيًا من أمل.. لا شيء يبدو ظاهرًا على السطح سوى الصمت أو أصوات لا تكاد تسمع.
دقت طبول حربين على جبهتين مختلفتين: حربٌ عسكرية، وأخرى صحية (وهما حربين من أجل البقاء) انخرط الرجال وربما الأطفال أيضًا في صفوف المقاتلين في جبهات القتال، ما أجبر ذلك خروج الكثير من اليمنيات ومن شتى الأعمار للبحث عن عمل (ولو بدخل يسير؛ ليبقوا على قيد الحياة)، ومع افتقار غالبيتهن لأي مهاراتٍ ومعارِفٍ تؤهلهن للمنافسة على العمل الجيَّد أو حتى أحيانًا القدرة على مواجهة تمييز طبقي اجتماعي بغيض ضد المرأة في مجتمعٍ ذكوري لا يؤمن بحقوق المرأة العاملة إلا فيما ندر.
صفاء محمد -شابة في نهاية العقد الثاني من العمر-، هي إحدى النساء اللاتي أجبرتهن الظروف على الانخراط في سوق العمل؛ للإنفاق على بقايا أسرة أصبحت بدون عائل بسبب الحرب وظروف جائحة كوفيد 19. صفاء كانت تسكن مع زوجها وأولادها الثلاثة (علي، محمد، وحمزة) ووالدها ووالدتها وأخوها الأصغر في مدينة حرض بمحافظة حجة (شمال غرب اليمن)، قبل أن يلتحق زوجها وأخيها للقتال بالجبهات، ويفقدانهما في غارةٍ جويةٍ أودت بحياتهما ضمن مجموعة من رفاقهما.
تقول صفاء إن مقتل زوجها وأخيها ترك حملًا وعبئًا كبيرين وثقيلين على عاتقها للإنفاق على الأسرة المتبقية وسد حاجياتهم الأساسية والمعيشية الضرورية فزوجها وأخوها -كما الكثير من اليمنيين- هم من كان يقوم بالإنفاق على هذه الأسرة، وتوفير احتياجاتهم المختلفة.
اتخذت صفاء بمعية والديها قرارًا بترك حجة التي انكووا بجحيمها وعانوا ويلاتها بعد خبر وفاة معيليهما، وقرروا التوجه إلى محافظة الحديدة (غرب اليمن)؛ للعيش هناك كنازحين في مدينة الحديدة. تصف صفاء حياتهم هناك بأنها الجحيم عينه، وتقول: “أعطتنا إحدى المنظمات خيمة نصبناها في إحدى المناطق على مدخل مدينة الحديدة، الخيمة ضيقة جدًا، ونحن أسرة متوسطة الكبر تقريبًا، كُنا نتناوب النوم بالساعات على ثلاثة فرش قدمتها لنا إحدى المنظمات المحلية هناك، نسينا شيء اسمه خصوصية، الحياة بائسة وصعبة جدًا، يتحتم عليَّ يوميًا الخروج لجلب الماء من نقاط مياه مشتركة أنشأتها بعض المنظمات على بعد مسافات تصل أحيانًا إلى ربع ساعة مشيًا على الأقدام لأجلب بمعيَّة ابني الأصغر حمزة عشرة أو عشرين لترًا من الماء، ناهيك عن الجهد الكبير الذي نبذله بين زحمة الأطفال والنساء النازحين هناك الواقفين في طابور الانتظار في نقطة المياه المشتركة تلك”.
وبعد طرقها لأبواب عدة للحصول على عمل التحقت صفاء في الحديدة بعمل في بلاط إحدى المؤسسات المحلية العاملة هناك كعاملة نظافة وخدمات لقاء مبلغ زهيد لا يتجاوز الثلاثين ألف ريال يمني في الشهر (أي ما يعادل خمسون دولارًا أمريكيًا تقريبًا) بدوام يومي يمتد لست ساعات تقريبًا، أما عن طفليها: محمد، وعلي الكبيرين فقد بدأ في العمل كماسحين ومنظفين للسيارات بجوار أحد المطاعم الفارهة في مدينة الحديدة لقاء 500 ريال يمني (أي أقل من دولار أمريكي واحد تقريبًا) عن كل سيارة يمسحانها.
تقول صفاء: “معاناة وحياة نكد وحرمان أدفع ثمنها أنا كأم كل يوم ليلًا عبر البكاء والنحيب من بؤس الوضع الذي آلت إليه أسرتنا، وكيف انتهى بنا الحال في غمضة عين وانتباهتها بدون معيل”.
في هذا السياق، تقول منظمة “سام” للحقوق والحريات: “إنه آن الأوان لأن يتخذ المجتمع الدولي دورًا حقيقيًا وفعالًا لحماية المرأة اليمنية، بعد أكثر من سبع سنوات على الصراع الدائر الذي كان معظم ضحاياه من المدنيين”. وتتابع المنظمة “أثرت تلك الانتهاكات بشكل خطير وغير مسبوق على تمتع المرأة اليمنية بحقوقها الأساسية، لا سيما في ظل استمرار تلك الانتهاكات من قبل أطراف الصراع وغياب أي بوادر سياسية أو إرادة دولية لحل الأزمة الممتدة منذ سنوات”.
وتقول -الناشطة الحقوقية، وعضو اللجنة الوطنية للتحقيق في ادعاءات انتهاكات حقوق الإنسان- إشراق المقطري: “إن المرأة في اليمن، دفعت الثمن قبل الحرب كمقدمة على وضعها المستمر لانتقاص حقوقها. إلا أنه في الحرب كانت الكلفة كبيرة جدًا، إذ وصل الأمر إلى المساس بحقها في الحياة وحقها في السلامة الجسدية والسلامة النفسية”.
الجدير بالذكر بأن اليمن مجتمعاً تقليدياً يهيمن عليه الرجال، وقد احتلّ المرتبة 160 من أصل 189 في مؤشر عدم المساواة القائمة بين الجنسين العام الماضي 2021، وفقاً لهيئة الأمم المتحدة للمرأة. لكن صراع البقاء أجبر النساء على تجاوز كافة الخطوط الحمراء.
ومنذ ما قبل الحرب، كان وضع النساء صعباً للغاية، لكن الأمور تدهورت بشكل أكبر خلال السنوات السبع الماضية، بعدما وجدت 60 ألف امرأة فقدن أزواجهن أنفسهن المعيلات الوحيدات لأطفالهن، إضافة إلى تهجير قسري طال 1125 أسرة من منازلها.
وبحسب تقرير أممي، يبلغ عدد الأسر التي تعيلها نساء على مستوى اليمن 417 ألف أسرة، وتبدو الأرياف الأكثر تضررًا، كونها الخزان البشري للمقاتلين في ظل اعتماد أطراف النزاع على المناطق النائية والقبلية بدرجة رئيسية في القتال.
وتؤكد -الناشطة اليمنية- هدى الصراري أن المرأة عانت خلال فترة الحرب من انتهاكات مختلفة، وقتلت وأُصيبت وعُوّقت وهُجّرت قسراً من مناطق عيشها وافتقدت أبسط معايير الحماية والوقاية التي تجنبها ويلات الحرب، مضيفة لـ(الاندبندنت عربية): “رغم ذلك نستطيع القول إن اليمنيات أسهمن بقوة وشجاعة في مواجهة ظروف الحرب القاهرة وعملن بجهد يفوق ما عاناه الرجل أنفسهم”.
وترى -الباحثة الاجتماعية اليمنية- عبير بدر أن: “وضع المرأة الاجتماعي يمر من سيِّئ إلى أسوأ، متسائلة: إذا كانت المرأة في الظروف الطبيعية وزمن السلم تعيش ظروفًا تعيسة ومؤلمة، فكيف سيكون حالها اليوم وهي المنفضة التي ينفض الجميع عليها غضبهم؟”.
تم نشر هذه المادة بدعم منJDH/JHR صحفيون من أجل حقوق الإنسان والشؤون العالمية في كندا.