الحديدة نيوز – صنعاء ـ أحمد الاغبري
(سلوى.ص -31 سنة) مُعلِمة مقرر التربية الإسلامية في الصفوف الأساسية في صنعاء، اضطرتها الظروف المعيشية القاسية الناجمة عن انقطاع صرف الرواتب لأكثر من سنة ونصف، إلى ترك المدرسة والعمل في تزيين النساء في محل كوافير. تقول «كان هو خياري الوحيد للحصول على دخل يوفر لي ولأولادي الأربعة بعد وفاة والدهم الاحتياجات الضرورية للمعيشة، مستفيدة من تجربتي الشخصية في تزيين بنات أقاربي في المناسبات». ومثلها معلمون يمنيون آخرون في محافظات أخرى اضطرتهم ظروف العوز الناجمة عن انقطاع صرف الرواتب بسبب الحرب المستعرة هناك إلى مغادرة وظيفة المعلم والعمل في مجالات أخرى وأحياناً قد لا تتناسب مع كونه معلماً يحظى باحترام المجتمع، كالمعلم (ع.م) الذي اضطرته الظروف ذاتها إلى مغادرة وظيفته والعمل في بيع نبتة القات (وهي نبتة منبهة يمضغها قطاع واسع من اليمنيين وتتعامل معها بعض الدول باعتبارها من الممنوعات). «لم يكن أمامي مفر سوى البحث عن عمل إضافي أو مهنة بديلة لأتمكن من توفير الغذاء والدواء لأسرتي المكونة من 8 أفراد بغض النظر عن مدى صعوبة العمل أو عدم تناسبه مع كوني معلماً». هذا ما قاله مدرس مادة اللغة العربية (ع.م) الذي قضى 13 عاماً من عمره في تعليم المقرر للصفوف المتقدمة في إحدى مدارس محافظة عمران (50 كلم شمال صنعاء) في تبريره لمغادرة وظيفته بعد أن توقف صرف رواتب المعلمين. انسداد أبواب الحياة في وجه المعلم اليمنيّ، من المؤكد أنه أمر ليس حكراً عليه وحده، بعد توقف رواتب نحو 200 ألف موظف في قطاع التربية والتعليم في أغلب المحافظات اليمنية، من بينهم، حوالي 14 ألف معلم ومعلمة في محافظة عمران وحدها. لقد وضعت الحرب المشتعلة في هذا البلد الفقير منذ ثلاث سنوات ملايين الأفواه الجائعة، يتصدرهم المعلمون وبقية الموظفين الحكوميين ومن يعولونهم في امتحان حقيقي، من أجل المكافحة للبقاء على قيد الحياة. بعد تنهيدة عميقة كشفت عن ملامح شاحبة وعينين تكادان تنضحان بالدمع والأسى، يقول المعلم (ع.م) الذي طلب عدم ذكر اسمه لاعتبارات تتعلق بسلامته «لم يعد أمامي مجال للبقاء في المدرسة دون راتب يلبي لأسرتي أهم ضروريات العيش». أجهد معلم اللغة العربية تفكيره، بعد انقضاء الخمسة الأشهر الأولى دون راتب، وهو يقلب السبل المتاحة أمامه للحصول على عمل بديل، فديونه تتصاعد كل يوم، وليس لديه مصدر رزق آخر، غير ما يتقاضاه لقاء وظيفته. وأخيراً اتخذ قراره للعمل في شراء وبيع نبتة القات باعتبار ذلك هو أقرب المتاحات وأسهلها، لجهة ازدهار زراعة هذه النبتة في محافظته ورواجها في أسواق العاصمة صنعاء القريبة نسبياً من عمران. طال أمد الصراع في اليمن، ما ألقى بقسوته، أيضاً، على سوق العمل؛ إذ تراجعت مصادر المعيشة وتضاءلت فرص الرزق، فصار من الصعب على هذا المعلم أو غيره من زملائه الحصول على فرصة عمل أخرى سهلة لا تتعارض مع استمرارهم في مهنتهم التربوية. يقول: «تركت الذهاب إلى المدرسة هذا العام الدراسي، وانصرفت للمهنة الجديدة التي ساعدني على الانخراط فيها أقارب لي يعملون فيها منذ سنوات، عبر جلب القات يومياً من مزارعه في عمران إلى صنعاء». اكتشف (ع.م) أن العائد المادي في هذه المهنة البديلة، التي لا تتواءم مع كونه معلماً يحظى بالاحترام والتقدير، أجدى من راتبه الحكومي بكثير، بل إنه يؤكد خلال حديثه أنه يفكر جدياً في ترك الوظيفة الحكومية نهائياً حتى لو عادت رواتب المعلمين من جديد. زميلته التربوية والمعلمة (م.ع.و27عاماً) كانت تنقلت بعد التحاقها بسلك التعليم في المحافظة قبل خمس سنوات، بين أكثر مَن مدرسة، تبعاً لمكان السكن الذي تنتقل إليه الأسرة من وقت لآخر بسبب عدم امتلاكها لمنزل خاص. أما بعد توقف رواتب المعلمين منذ 18 شهراً، فقد اضطرتها المعيشة، للبحث عن عمل بديل، وهو ما أجبرها على النزوح مع أسرتها المكونة من خمسة أفراد إلى العاصمة صنعاء، حيث فرص الحياة تبدو أفضل بكثير من مدينتها عمران. تقول إنها كانت أكثر حظاً من زميلات لها، أصبحن بلا مصدر للرزق، بعد انقطاع الراتب، إذ حصلت على عمل في منظمة مدنيَّة إغاثية في العاصمة براتب لا يتعدى 100 دولار، لكنه على الأقل يلبي متطلبات يومها الضرورية. تجزم معلمة الجغرافيا للصفوف المتوسطة، خلال حديثها، أن معظم معلمي المحافظة عمران، ممن ليس لديهم مصادر دخل أخرى «باتوا مهددين وأسرهم بالموت جوعاً بسبب توقف صرف مرتباتهم» إلا إن كانوا محظوظين بالانصراف إلى أعمال أخرى تقيهم مذلة السؤال، وعذاب الانتظار لراتب ربما لن يأتي أبدا. ولأن راتب المعلمين، لا يعني فقط تهديد معيشتهم، بل يلقي بتبعاته على المنظومة التعليمية برمتها، إذ إن هناك عشرات الآلاف من التلاميذ مهددين بترك فصولهم الدراسية التي أصبح معلموهم يتوارون عنها تدريجياً كلما طال أمد انقطاع رواتبهم. وفي السياق نفسه، تشير إحصاءات محلية في محافظة عمران، أن الحرب المستعرة أدت في السنوات الثلاث الماضية إلى حرمان نحو 70 ألف تلميذ من الاستمرار في الدراسة أو الالتحاق بها بالنسبة لمن أصبحوا في سن التعليم. ومع معضلة انقطاع رواتب المدرسين قد تصبح الأرقام، مخيفة إلى حد توقع انهيار النظام التعليمي، في أغلب المحافظات اليمنية، وليس في عمران وحدها. ويؤكد مسؤول محلي يعمل في قطاع التعليم في عمران، طلب عدم ذكر اسمه، أن انقطاع مرتبات المعلمين والمعلمات، يشكل أهم التحديات أمام العملية التعليمية، ولا بد من حلول عاجلة للمشكلة. ويكشف المسؤول التربوي عن أن أعداداً كبيرة من المعلمين والمعلمات نزحوا خارج المحافظة جراء تداعيات الحرب وفقدان رواتبهم، فضلاً عن قيام الكثير من أولياء الأمور بمنع أبنائهم من مواصلة الذهاب للمدرسة خشية على حياتهم أو لعدم قدرتهم على الإنفاق على تعليمهم. وفي غضون هذا الوضع المأساوي الذي ينطبق على مناطق كثيرة من اليمن، أعلنت منظمة الأمم المتحدة للطفولة «يونيسيف» في تقرير أصدرته في آذار/مارس الماضي «أن تصدع العملية التعليمية في اليمن بعد ثلاث سنوات من الصراع الدامي دفع بنصف مليون طفل في البلاد خارج مدارسهم ليصل اجمالي عدد الاطفال المحرومين من حق التعليم الى نحو مليوني طفل .
وأشارت المنظمة الدولية في تقريرها إلى «أن توقف رواتب الكوادر التعليمية العاملة في ثلاثة أرباع المدارس الحكومية منذ أكثر من عام جعل تعليم قرابة 4.5 مليون طفل على المحك». وفي السياق ذاته الذي يعبر عن حجم المشكلة التي باتت تهدد نظام التعليم، علقت ممثلة «يونيسيف» في اليمن ميريتشيل ريلاينو بقولها «إن جيلاً كاملاً من الأطفال في اليمن يواجه مستقبلاً غامضاً بسبب محدودية أو عدم إمكانية حصولهم على التعليم». وتضيف: «حتى أولئك الذين ينتظمون في المدارس لا يحصلون على التعليم الجيد». ووفقاً لتقرير بعنوان «خارج المدرسة: أطفال اليمن ودروب الضياع» الصادر عن «يونيسيف» فثمة أكثر من 2،500 مدرسة باتت خارج الخدمة، 66 في المئة منها تضررت جراء الاقتتال في البلاد كما تم إغلاق 27 في المئة منها و7 في المئة من هذه المدارس أصبحت تستخدم لأغراض عسكرية أو كمأوى للنازحين. وحسب تقرير المنظمة الدولية الخاص بوضع التعليم في اليمن فإن نحو 2،419 طفل على الأقل انخرطوا في القتال منذ اذار/مارس 2015 بعد أن تم تجنيدهم. وباسم أطفال اليمن، ناشدت «يونيسيف» في تقريرها «الأطراف المتحاربة وكل من له منه نفوذ عليهم والسلطات الحكومية والمانحين بالضغط باتجاه وضع حد للحرب» وأكدت «أن السلام والتعافي ضرورة مطلقة لعملية استئناف أطفال اليمن لدراستهم وحصولهم على حقهم في التعليم الجيد الذي يحتاجونه بشكل عاجل». ووجهت المنظمة الأممية الدعوة إلى المجتمع الدولي والمانحين وشركاء التنمية من أجل «زيادة المساعدات لدعم دفع حوافز للمعلمين والمعلمات وفي الوقت نفسه البحث عن حلول طويلة المدى لأزمة الرواتب في اليمن مع الاستمرار في دعم النظام التعليمي». ودعت في تقريرها «السلطات التعليمية في جميع أنحاء اليمن إلى العمل جنباً إلى جنب والسعي الجاد لإيجاد حل فوري لدفع رواتب كافة المعلمين/ المعلمات والعاملين في سلك التعليم حتى يتمكن الأطفال من متابعة دراستهم». كما شددت «يونيسيف» على ضرورة حماية تعليم الأطفال، وقالت إنه «يتعين على كافة أطراف النزاع ومن له نفوذ عليهم الالتزام دون قيد أو شرط بوقف الاعتداءات على المدارس، وإبقاء الأطفال والكوادر التربوية بعيداً عن الأذى، والحفاظ على المدارس كمساحات آمنة للتعلم».
© صحيفة القدس العربي