مهاجرون .. بلا انصار ! كتب /خيري منصور

‏  7 دقائق للقراءة        1207    كلمة

 

مهاجرون .. بلا انصار !

كتب /خيري منصور

لماذا يسقط الماضي ولا يسقط ..؟ كان ذلك سؤال مزدوج شعري بقدر ما هو سياسي طرحته قصيدة ادونيس مقدمة لتاريخ الطوائف قبل اكثر من اربعة عقود، تبدلت فيها وجوه واسماء وغابت ظواهر وولدت اخرى لكن من صُلبها، وما يزال السؤال عالقا بتقاويم اصابها التخثّر، وتصلّبت الى الحدّ الذي اوقف عقارب الساعات عن الدوران، اللهم الا اذا كان الى الوراء…

فالماضي يسقط ولا يسقط والآتي يٌقبل ولا يٌقبل، وتستمر هذه المسرحية التي تستلهم عبثية صاموئيل بيكيت الى ما لا نهاية، لأن غودو لم يصل بعد، وقد يلوح على خشبة المسرح لأقل من نصف دقيقة كي يقول بأنه لن يأتي، فالعربي لم يعد يستهل قصيدته بأطلال مكانية، لكنه مسكون بأطلال اخرى زمانية، لهذا استوطنت اللحظة الطللية ذاكرته وليس وعيه فاستبدت به نوستالجيا باهظة التكاليف، لأنها في السياسة حوّلت المستقبل الى رهينة للماضي، وفي الشعرية اعادت انتاج المديح الهجاء وهما الثنائية العابرة للعصور مما دفع من ترجموا هذين المصطلحين الى تراجيديا وكوميديا، تماما كما اعادوا انتاج كارل ماركس وحولوه الى رجل دين واحيانا الى وثن من حجر ولو كان من تمر لأكلوه، فالمديح بطبعته الجاهلية الاولى لم يسقط بل هاجر من القبيلة الى الحزب ومن السلطان الى الثورة، لأن قوة القبيلة تشربت وتمددت الى نسيج الحزب السياسي والنقابة وكل التشكيلات التي تحمل اسماء مستعارة كالاقنعة، كما ان الثورة حلّت مكان الممدوح القديم، فهي لها وعودها ايضا بالولاية حتى لو كانت ولاية مضادة لتلك التي انتظرها المتنبي من سيف الدولة، لأن تغيير مفردات المعجم بِمُتَرادفات جديدة لا يغيّر بنيويا من النسيج .

* * * * * * * * *

انها ثقافة الهجرة والنزوح بامتيازين اولهما ان المنفى فيها هو شرط العودة حتى لو كانت فتحا مبينا، وثانيهما ان تاريخا برمته يبدأ من الهجرة، لهذا ظفرت المنافي بشعر وأدب يتفوق على ما يماثلهما في الملكوت. بحيث تحول المنفى احيانا الى مطلب جمالي، وذلك ليس على مستواه الجغرافي فقط، فهو ذو عدة مستويات منها المكاني والزّماني والسياسي، لهذا كانت صفة لاجىء سياسي شائعة في خمسينات وستينات القرن الماضي مقابل اللاجىء بالمفهوم التقليدي، وبقدر ما كان اللاجىء الفلسطيني يكابد ويتعذّب وتقتسم عدة اسر خيمة واحدة، كان اللاجئون السياسيون ينعمون على ضفاف النيل، حين كانت القاهرة الناصرية ندّاهة العرب السياسية وعلى ضفاف البلطيق وفي المنتجعات السياسية والطبية في ضواحي موسكو وبراغ، وما قاله الشهيد غسان كنفاني وهو خيمة عن خيمة تفرق يستحق التأويل بحيث يصبح لاجئا عن لاجىء يفرق، وقد لا نذهب بعيدا اذا مثلنا بان بعض المنفيين لاسباب سياسية، لم يسعدهم تغيير الاحوال في بلدانهم لأن هذا التغيير سواء كان انقلابيا او بفعل احداث تغيير وما سمي حركات تصحيح يحرجهم ويفرض عليهم العودة الى الجحيم من فردوس المنفى، لكن هذا النمط من اللجوء لم يعد موجودا الا في حالات نادرة، لأن الوطن العربي لم تعد فيه عواصم لها صفة الملاذات القومية، اضافة الى ما حققته النظم الامنية من تناغم وتعاون بينها حتى في ذروة خلافاتها السياسية، حيث لم يعد من شعارات الوحدة العربية الا ذلك الشعار الذي يأتلف تحته وزراء الداخلية العرب في مؤتمرات قلما نسمع شيئا عما يدور فيها، بخلاف وزارات الخارجية التي ورثت دور شعراء النقائض في الدولة الاموية، واضافت برهانا جديدا على ان الماضي يسقط ولا يسقط . حتى الغرب وبالتحديد اوروبا والولايات المتحدة لم يعد بعد الحرب الباردة يستقبل اللائذين به من نظم اشتراكية، كما انه ليس بحاجة الى علماء من طراز زاخاروف وأدباء مثل سولنجستين وحتى راقصي باليه كي يستخدمهم في الميديا الرأسمالية المسلحة ضد عدوه القديم. وهو الان لا يستقبل من هذه البلدان وبالتحديد في الشرق الاوسط غير من يعرضون خبراتهم او حتى ذكاءهم للايجار، ويضيق ذرعا ومساحة بمن لا يروقون له ولا يتحولون الى رهائن في خزائنه الاستراتيجية، وقد تكون مفارقة الاستشراق الجدي اضاءة ساطعة لقراءة هذه الظاهرة وما يماثلها، ففي الماضي البعيد نسبيا، وحين كانت وسائل الاتصال والتواصل بالغة العُسر كان طلائع المستشرقين يتكبدون المشاق وهم يقطعون المسافات الى صحارى العرب واطلالهم وتضاريس ارضهم الوعرة، فلم يأت ادوارد لين الى مصر على متن طائرة، وكذلك بينور عندما وصل الى اليمن، لكن ما تبدل الان هو ان العربي بدأ يطرق الابواب او يقعي كالمتسول على اعتاب السفارات والمراكز الثقافية كي يقدم نفسه عيّنة استشراقية وكان الفأر الابيض هو ما يسعى الى اقفاص المختبرات، لقد غذّت ثقافة الهجرة واللجوء الى الآخر حتى لو كان عدوّا دوافع البحث عن منفى ارادي رغم ان امثولة امرىء القيس مكثت في الذاكرة طيلة تلك القرون عندما دفع ثمن الملاذ الهمي بأن تقرّح جلده ورثى نفسه في جبل عسيب وكذلك امثولة الغساسنة والمناذرة فليست كل هجرة هي وعد بفتح عظيم او بعودة ظافرة، اللهم الا اذا كان قياصرة عصرنا كما يسميهم تشومسكي من الدهاء بحيث لا يورطون اللائذين بهم بعباءات مسمّمة، بل يحملونهم معهم على اسطح دبابات وطائرات وبوارج .

* * * * * * * *

ما من هجرة تُفضي الى العودة الظافرة بلا انصار، تلك هي حكايتنا الاولى او على الأقل ما تعلمناه عن الهجرة الناقصة، فأين هم الانصار الان رغم وفرة المهاجرين ..؟ وان وجد مثل هؤلاء الانصار فما هي شروط نُصرتهم ؟ في المثال الاسلامي استجاب النّصير للمهاجر وتماهى معه وحين عاد معه كانت تحت مظلته وعلى هوادجه، لكن النصير الان من طراز آخر تماما، فهو قد يؤوي المهاجر او اللائذ به وقد ينفق عليه، لكن من اجل استخدامه وقودا لعجلاته، او دليلا سياسيا بدل السياحي لكل شبر في وطنه، هذا ما حدث بالفعل وليس ما نخشى حدوثه، وهو قابل للتكرار على ما يبدو ما دامت القيامة القومية لهذا العقل السياسي غير وشيكة، وليس ثمة من القرائن ما يشي بأنها قادمة. نعرف ان الانسان بعامّة يحلم دائما بما هو هناك، لعلّ ذلك البعيد وغير المرئي يحقق له ما أخفق في تحقيقه هنا، وثمة قصيدة لبرتولد بريخت بعنوان بيلارس تحاول كشف هذا السر البشري، وهي اليوتوبيا التي لا يشكو الناس فيها من اي فقر او مرض او شيخوخة، انها تشفي حتى الأبرص، وتعيد للأعمى بصره، لكن من سوء حظ الحالمين بهذه المدينة انهم صحوا من النوم ذات صباح ليسمعوا بأن بيلارس اصابها زلزال ودمّر كل ما فيها.

* * * * * * * *

الهجرة ذاكرة اما.العودة فهي خيال، رغم ان الخيال هو اعادة انتاج للذاكرة بعد ترميم ما فيها من نقصان واحيانا يصبح الخيال واقعا بالغ التركيز كما يقول ارنست فيشر، وذلك بالتحديد عندما ينوب عن الذاكرة خصوصا لدى جيل من المهاجرين الذين صاغوا لانفسهم وطنا ومسقط رأس من الخيال وحده.

واعرف اصدقاء وزملاء اتيحت لهم العودة الى مساقط رؤوسهم بشكل او باخر لكنهم سرعان ما عاودوا الحنين والبكاء على المنفى، لانه تحول الى ملكوت رغما عنهم، فالمنفى عندما يصبح اقامة دائمة يتحول الى نمط اخر من الماسوشية، بحيث يستمرئ المنفيّ منفاه، ويدمنه ويحوله اذا كان كاتبا او فنانا الى منجم لعمله لانه ليس من الطبيعي ان يستغرق الانتظار عمر الانسان كله، وقدر تعلق النفي بالابداع فإن ادنى مراحله هو المكاني او الجغرافي، اما المراحل الاخرى ومنها الزماني او الميتافيزيقي فهي المنفى الذي لا عودة منه، وهو الذي وصفه على نحو رمزي آسر ميلارميه في احدى قصائده فهو يتصور انسانا عليلا يعيش في مصح بعيد ويسمع عن بعد اصداء الحياة التي يعيشها الاصحاء بحرية … لكن هناك لحظة يتوقف فيها كل شيء، ويصبح الصمت ضجيجا مبهجا، لعله صوت عربة الزمن التي تمضي نحو الابدية!

عن arafat

شاهد أيضاً

نتنياهو واستراتيجية الديماغوجيا .. 

‏‏  2 دقائق للقراءة        335    كلمة الحديدة نيوز – كتب – بشير القاز في أول تصريح …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *