تقية بنت الإمام يحيى ..تروي سيرة حياتها وقصة خروجها من صنعاء
الحديدة نيوز/خــــــــــــــاص
تقية بنت الإمام يحيى حميد الدين صاحبة ذكريات يتيمة الأحزان من حوادث الزمان ولدت سنة 1341 هـ ماتزال على قيد الحياة عمرها الحالي يزيد عن الــ90 عاماً شهدت خلال حياتها قتل أبيها وسبعة من إخوانها توفيت والدتها وعمرها سبع سنوات وتزوجت مرتين الأولى في عام 1354 هـ وعمرها يقترب من الـ 13 سنة من السيد عبد الله بن علي الوزير الذي كان يكبرها بما لا يقل عن 17 عاما وكان قد سبق له الزواج ثلاث مرات وكانت زوجته الثانية ابنة أخيها ولي العهد احمد التي توفيت حال الولادة ،وقد أنجبت تقية لزوجها الأول بنتا واحدة اسماها الإمام يحيى امة العزيز، بينما كان زواجها الثاني من السيد احمد بن حسين الكبسي.
وعن قصة حياتها تقول تقية:في قافلة عمري تحملت وشقيت شقاوة غرائب الإبل، ولقيت اليد التي تمسح الدموع وعرفت اليد التي تريق الدماء أبصرتُ غدر بعض بني الآل ورأيت الوفاء والشهامة والرجولة عند الكثيرين من أبناء وطني، الذين شدوا أزري وتحدوا التهديدات، وسخروا من التلويح بالعقوبات، فكانوا نعم الأهل والأبناء..
هل يمكن لعاقل في هذه الدنيا أن يتصور أن زوجا يتآمر لقتل والد زوجته ثم يعود ليبث لواعج إخلاصه لزوجته ووالدها ويذرف الدمع مدرارا على فقد ضحيته، كلها وقائع حقيقية، عشت في أتونها واكتويت بنيران حسراتها.
عايشتُ اغتيال سبعة من إخواني وعشرات من أبناء وطني، علماء وفقهاء ومشايخ واعيان أخلصوا لربهم ودينهم ووطنهم.
توفيت أم تقية وعمرها سبع سنوات سنوات وعن هذه الحادثة تقول تقية: القيت بنفسي على الأرض نائحة بكلمات حزينة محزنة يا أماه هل تركتني وحيدة.
أبكيت كل الحاضرات، أرى دموع الحرقة والعطف والشفقة وكأنها جداول تضج ولامس بكائي وحزني شغاف قلب أبي يرحمه الله فأرسل في طلبي ووالدتي آنذاك في سريرها قد ودّعت الدنيا، حملتني الطبيبة الروسية التي كانت تتولى علاج أمي وصعدت بي إلى حجرة والدي الإمام، وهي الحجرة العليا بدار السعادة.
دخلت باكية ورميت نفسي بين أحضان أبي فضمني إلى صدره ضمة ما كان أحوجني إليها، ومسح بيديه على رأسي وشعري وأمضى يرحمه الله وقتا وهو يواسيني ولاطفني ويؤنس وحشة احتضار أمي حتى إذا ما هدأت نفسي أنزلتني الطبيبة الروسية إلى الغرفة المسجى فيها جثمان والدتي وقبيل الفراق الأخير كنت مع مؤمنة، الخادمة التي كانت يهودية واعتنقت الإسلام بهداية أمنا حورية زوجة والدي ومعنا زوجة أخي إبراهيم في حديقة دار السعادة.
أمضيت ليلتي تلك الأخيرة إلى جانب والدتي وفي الصباح كانت جنازة عظيمة لوالدتي, قيل: كانت جنازة والدتي اكبر واحفل جنازة خرجت من دار السعادة،
والدتي يرحمها الله كانت نغما في حياتي لم يكتمل، وقصة لم تكتب، يُماه غادرتنا والطريق طويل، كنت حينها في السابعة من عمري مما حفر في عقلي وقلبي من آلامها ومُر شكواها وأنا من بين يديها تمشط شعري وتزينني، تمرر يدها على صدري وظهري وتمسح بيدها الأخرى على رأسي، ضمتني وقبلتني قبلة كلها دفء وحنان لا أزال أحسه، قالت لزوجة أخي القاسم: لولا ابنتي هذه ما عدت إلى هذه الدار بعد أن خرجتُ منها مطلقة، وببراءة الطفولة كنت انظر إلى وجهها فإذا دمعة مرسلة من عيونها..
وقد كانت والدة تقية هي الزوجة الثالثة للإمام وهي بنت علي محمد غمضان الكبسي وكانت ذات دين وعقل وملاحة وجمال من أسرة كريمة أنجبت له بنتين وتوفيتا وكانت الثالثة البنت تقية طلق الإمام يحيى زوجته بنت الكبسي ثم قام باسترجاعها حتى توفيت ولهذا الطلاق قصة, كان من عادة الإمام يحيى أن يستقبل زوجاته في غرفته في الطابق الأعلى من دارالسعادة وفي ذلك اليوم الذي هو نوبة بنت الكبسي صعدت إليه لكنها رأت حذاء حريمي بباب غرفة الإمام فظنت أن إحدى نسائه في الداخل معه فرجعت تأدباً ولم تدخل, ثم عاودت الكره مراراً ومازال ذلك الحذاء في مكانه فاعتقدت مغتاظة أن إحدى نساء الإمام قد باتت معه تلك الليلة ,بينما الإمام لم يوجد معه أحد وكان هو الآخر منتظراً لها بل مما زاد الأمر سوءاً انه في ذلك اليوم كان يعاني من ألم وإرهاق وكان بحاجتها للتخفيف عنه, وكان ذلك الحذاء قد وضع عن قصد من إحداهن ولم نعلم هل وضعته إحدى نسائه أم إحدى قابلات دار السعادة, وفي صباح ذلك اليوم اشتد الخلاف بين الإمام وزوجته, وتم ذهابها إلى بيت أهلها, وبعد فترة أرسل الإمام فصل الخطاب إليها بورقة طلاقها التي صدمتها وأعملت في قلبها شرخاً حتى توفيت .
انتقلت والدتي إلى بيت خالي وكان خالي كريما سمحا جهّز لنا جناحا خاصا وأثثه بكل ما يلزمنا وحتى المربية والخادمة ولما كنت الصغيرة فاني أنا المحفوفة بالرعاية والحب من الجميع، الخال والبنات والأمهات والإخوة والأخوات وأما والدي فكان يرسل في كل جمعة العربة التي يجرها حصانان فأذهب إلى دار السعادة ومعي مربيتي فإذا ما رآني والدي رحّب بي وهش وبش وقبلني وضمني إلى حضنه وكنت أشعر بالراحة والسعادة على صدر والدي يداعبني ويلاعبني، يسألني عن الوالدة والخال ويغمرني بما لذ وطاب من الحلوى والهدايا.. وبعد فترة وفي ذات يوم وصل رسول من قبل الوالد الإمام ابلغ خالي بأن الإمام زعلان لأن تقية تلعب في الطريق العام خارج المنزل وإنني وزميلاتي نتقاذف الحجارة مع الأخريات ولا ادري إن كانت وشاية من احد الذين اعتادوا زيادة مقيل خالي أو أن والدي أراد به تجريب طريقة أخرى لإقناع والدتي بالعودة والمراجعة, فقد اقترح والدي عودتنا إلى دار السعادة ولكن والدتي ظلت على امتناعها لكونها مطلقة، وبعد عام عاود الوالد الإمام الإلحاح على والدتي بالانتقال إلى دار السعادة وقد لقى هذا الإلحاح ترحيباً من جميع الأسرة وعدنا إلى دار السعادة وكان الترحيب حارا من كل أفراد الأسرة رجالا ونساء صغارا وكبارا، الضرائر وغيرهن وللحقيقة فان والدتي كانت مرتاحة.
أما أنا فقد دأبت على قراءة القرآن حتى ختمت القرآن وابلغ والدي بختمي للقرآن وكان فرحا جذلا بعد أن امتحنني في القراءة وكافأني بإقامة حفلة خاصة لي بمناسبة ختم القرآن الكريم.
وفي ذات يوم من صيف عام 1354هـ، وكنا في مصيف وادي ظهر فجأة حدث ما لم يكن بالحسبان وما كان يخطر على البال، ولا تصورته في مخيلتي، كنت فتاة قد اقتربت من الثالثة عشرة من عمرها، ما زالت نشوة الفتوة تجلل كياني، وحبي لأبناء أسرتي وزميلاتي وصديقاتي يكبر مع الأيام.
في ذلك اليوم وصل السيد عبد الله بن علي الوزير من تعز وبرفقته القاضي محمد راغب وطلب السيد عبد الله يدي من والدي الإمام وعندما سألوني صُعقت وبكيت، اضطربت كموج البحر، تواردتني الخواطر، كيف أفارق البيت الذي فيه تربيت، وفيه درجت ثم من هو هذا الخاطب الذي لا أعرف عنه شيئا لا أعرف إسمه ولا حتى صورته ولا سمعت عنه شيئا، فكيف أترك مراتع أنسي وفرحي عند أبي وإخواني وأخواتي وأغادر إلى بيت ما عشت فيه ولا زرته وأعاشر قريناً لم آلفه ما بالي كيف أفارق صويحباتي وزميلات السطوح والأرجوحة والمسبح والحديقة.
كانت نظراتي حائرة، فيها من الدهشة والغرابة والاستفهام ما يجعل القلوب تنفطر ولكن ماحيلتي وأخي الحسين يُلح عليّ في القبول، يُطري ويثني ووالدي يكرر الثناء عليه وعلى والده العم علي الوزير، بين التيه والإدراك والممانعة والاستجابة لرغبات الوالد والإخوان كانت الموافقة الخجولة على هذا الخاطب.
كل ما عرفته عنه أنه يكبرني بما لا يقل عن سبعة عشر عاما وسبق له الزواج ثلاث مرات زوجته الأولى دولة بنت عبد الله باشا، وقد توفيت، ثم ابنة أخي أحمد ولي العهد، وتوفيت في حالة الولادة، وزوجته الثالثة ابنة الشيخ عبدالله عثمان وقد فارقته بالحسنى، وما هي إلا أيام حتى طلب إلى الإمام التعجيل في العرس فعدنا من وادي ظهر إلى صنعاء، وجرى تجهيزي للعرس في أقل من شهر.
كان الاحتفال في دار السعادة، وكان عرسا كبيرا عزفت فيه موسيقى الجيش المقطوعات الدينية والوطنية لثلاثة أيام والرقص عام بساحات دار السعادة بالعصي والسيوف للرجال وعلى قرع الطبول والمنشدون يصدحون بالأناشيد الدينية وبأنغام ساحرة وجمال العرس يزينه اختلاف الأزياء وتنوعها ثم الولائم والأسمطة التي مدت، أما نساء دار السعادة والمحتفلات من المضيفات فيغنين أعذب لألحان في قاعة النساء الخاصة.
في غمرة هذه النشوة بل العنفوان من الفرح، كان لي حزن لم يشاركني فيه أحد وخاصة عندما حانت ساعة الانتقال إلى بيت العريس في حي الصياد..
فقرأ والدي ما يعتمل في ذهني وما دلت عليه ملامح محياي فزف إليّ خبرا سعيدا، قال: لقد خصصت لك يا تقية ولزوجك بيتا في حي الروضة للسكن فيه فالروضة أطيب هواء وأكثر اعتدالا وأشد خضرة من حي الصياد.
وللحقيقة، لقد أفرحني ذلك الفرح كله، وانتشيت فاني سأرى والدي وإخواني وأخواتي كل يوم، ولم يمض شهر ونصف على سكننا في الروضة حتى أخذت الرسائل تنهال على والدي الإمام مرسلة من عمي علي الوزير تستعجل وصولنا إلى تعز، حيث كان العم علي أمير لواء تعز وبدت سعادتي وكأنها انتقصت فأنا بطبعي أنفر من السفر وتبرمت، لكن الأهل أخذوا يرغبونني في السفر والإقامة في تعز الجميلة كل واحد وواحدة يصف لي تعز بأحلى الأوصاف ثم استدعاني الإمام ونطق بكلمات كان لها أثرها في تهدئة قلقي: يا تقية في أي وقت تطلبين زيارة الأهل في صنعاء، سيكون طلبك مجابا حالا، وزوجك عبد الله سيكون أول الموافقين.
تحرك موكب السيارة مخترقا شوارع صنعاء وبدا مني وداع لمدينتي التي ماتنسمت هواءً غير هوائها ولا شربت ماءً غير مائها ولا تفيأت بظلال أشجار غير أشجارها الخضراء الوارفة أواه يا صنعاء كيف احتمل اجتياز شوارعك في هذا الموكب.ودعت صنعاء بدمعة تلظى بها مآق العين حيثما لاح بريقها في خيالي.