الحديدة نيوز_ كتب/ أ.د عبدالودود مقشر:
مثّلت ظاهرة رجال الدين التابعين للسلطات الحاكمة باليمن أحد الأسس التي انتهجها الحكام في كل زمان، وأصبح من المسلم به أن رجال الدين بتهامة يفضلون الصبر والتصبر ودعوة الناس إلى ذلك بدلاً عن الثورات، لكن هذه الظاهرة ليست بثابتة ودائمة، فكثيراً ما خرج من هؤلاء العلماء من دعا الناس للثورة بل وحمل راية الكفاح ضد حكام اليمن الغاصبين لها، وخلال حكم الأئمة ورغم الخلاف المذهبي والعقائدي إلا أن بعض علماء تهامة فضّل الثورة ومنهم العلامة الخطيب عبد القادر الأهدل.مقتدياً بجده سيد الشهداء وريحانة الجنة الامام الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم.
خطب عبد القادر الأهدل خطبة بليغة في ذكرى معركة بدر الكبرى حين انتصر الإسلام على الشرك في يوم 17 رمضان في الجامع الكبير بالمنصورية، وقد أشار الخطيب إلى أن فئة صغيرة مؤلفة من 313 من الصحابيين المؤمنين غلبوا سبعة آلاف من كفار قريش، وبعد أن أشبع الموضوع عرج الخطيب على الداهية الكابسة على الشعب في الوقت الحاضر، وعدّد ويلاتها المنصبة على اليمنيين باسم الدين الإسلامي، ونشرت الصحف مقتطفات من الخطبة فقال:
(بدعة في الظلم من أسوأ البدع، تعود بنا إلى ظلام القرون الغابرة، وعهد العصور البائدة، وبالها مستطير على الشعب اليمني في سياسة تسير عليها الحكومة المتوكلية في هذا العصر المستنير، فهل سمع العالم بمثل ما يجري على أمة عربية كان المفروض أن تكون في مقدمة الشعوب العربية، احتراماً لشريعة الإسلام في المعاملات وتقديساً لمُثلها العليا الداعية إلى الشفقة بالرعية، وإقامة الحكم الصالح الرشيد فيها، هل سمع الناس بأنها تنتزع فلذات الأكباد ومهج الأرواح من أحضان الأمهات والآباء ويزج بهم في غياهب السجون؟ لا لذنب اقترفوه هم ولا آباؤهم، ولا لجرم ارتكبوه، وإنما تنفيذاً لبدعة سيئة، وإرهاب مخيف باسم الرهائن في أيدي الحكومة وحرمانهم من التعليم، ولكنهم ينفذون ما يشاءون من ظلم وجور في القبائل والأسر والأفخاذ والعشائر سواءً الحاضر منهم والبادي، أليس هذا منتهى الضعف في الحكومة والعجز؟ والأسوأ والأضر أنها تجري باسم الدين الإسلامي، وبهذا حولت الحكومة المتوكلية قلاع صنعاء وحصون شهارة وحجة وتعز والحديدة وزبيد قبوراً لزهرات اليمن، تغص بهم حجراتها المظلمة وهم أطفال أبرياء وشباب ناضج وشيوخ أجلاء..).
واستمر يقول: (يا أيها اليمنيون… إذا عجزتم عن تغيير هذا الحال وإزالة الوضع الفاسد والنظام البائد، فافزعوا إلى هيئة الأمم المتحدة وإلى الجامعة العربية، فإلى متى تنتظرون؟ خبروني بالله عليكم أليست مصالحكم الحيوية مهملة؟ فلا طرق في قراكم ومدنكم تساير الزمن، وليس لكم جيش تفخرون به، ولا شرطة مثل الدول النابهة، ولا دوائر برق وبريد في القرى والمدن الداخلية منظمة ممتازة، ولا وزارات مسئولة، ولا سلك دبلوماسي معتبر في هيئة الأمم سوى مهزلة مضحكة، ما بال بيت مال المسلمين خال خاوٍ، أم أن الحكومة تبخل بما فيه على الشعب للإصلاح العام، والمال في كل زمان عماد الدولة وكيان الأمة، وتجمعه الدولة من الضرائب ولكنها تحصره في اليمن في يد واحدة لا يتعداها إلى غيرها حتى لقد أصبح بيت مال المسلمين حقاً موروثاً للحكومة المتوكلية.
يا أبناء اليمن، هل علمتم أنه لا يجوز إعطاء حقنة لمريضكم إلا بأمر شريف، ولا أن يشترى حقنة لتداوي بها من ماله الخاص إلا بأمر شريف!!! ولكن الحاكم يبدد كل هذه الأموال والأدوية على أموره الخاصة، وهي من دمكم كأنكم ليس لكم في الدنيا وجود، حتى أصبحنا والعالم يسخر بنا ويهزأ، فهل نحن قبائل ورجال…. وكانت عصاهم لا تلين لغامز ولا عقبة إلا اقتحموها في تاريخهم المجيد في صدر الإسلام، ولهم الفتوحات المجيدة، وقد أصبحوا هشيماً {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا}…
كلا والله، لقد جلبت علينا الحكومة المتوكلية الصواعق المحرقة، وألصقت بنا ابتداعاً بأننا أهل البدع الزندقة…
يا أبناء اليمن، أبكوا على أنفسكم، فقد ذهب خياركم ورقي شراركم، ذهبت المروءة.. وذهبت الإنسانية.. وضاعت الكرامة اليمنية بين بقية الشعوب) راجع: الخطبة كاملاً بجريدة فتاة الجزيرة، العدد 1293، يوم الأحد 29 رمضان 1379هـ / 27 مارس 1960م.
أوردت الصحف العدنية الخطبة، وعدّته خطاباً تاريخياً هاماً يتدفق بالوطنية، وما إن انتهى حتى كان المستمعون يلهجون بالبكاء والعويل، وألقي عليه القبض عقب الخطبة وسط سخط شعبي أجبرت السلطات الإمامية على إطلاقه ولكن بضمانة حفظاً لماء وجه السلطات حتى السحور وقد كان الضامن العلامة أحمد بن يحيى البحر، أحد علماء المنصورية، ولكن الخطبة ومضمونها وصلت إلى الإمام أحمد في السخنة، فأثارت استياء الإمام أحمد وحنقه على هذا العالم التهامي، وبعد السحور أعيد إلى السجن وعند الصباح الباكر اقتيد إلى الحديدة مكبلاً بالأغلال ثم إلى سجن نافع بحجة حيث مكث يعاني الأمرين رغم كبر سنه وشهرة علمه، ثم أصدر الإمام أحمد أمراً بإعدامه في يوم السبت 27 شوال 1379هـ / 23 أبريل 1960م، ونفذ الإعدام فوراً.
أورد مراسل صحيفة فتاة الجزيرة في العدد 1324، يوم الجمعة 10 ذو القعدة 1379هـ / 6 مايو 1960م، صدمة العلماء اليمنيين من سرعة الحكم والتنفيذ، فقال المراسل: (بكى علماء تهامة وعلماء الشافعية في اليمن، وعلماء الزيدية، وكلهم يذرفون الدمع السخين لمصرع هذا الشيخ الجليل والسيد النبيل الذي نفذ حكم بإعدامه وقد تخطى الثانية والسبعين من عمره بعد أن سجن في حجة أربعين يوما… وقد أعدم بحجة لأن حرية القول محرمة في اليمن.
ولما آن موعد قتله تكلم السيد عبد القادر وقال: ذهب ابن الأحمر وذهب ولده ضحايا الظلم، وهكذا لا يمر علينا شهر أو أقل أو أكثر إلا ونقدم أنفسنا قرابين، إننا يا أبنا اليمن حفاة، عراة، جياع، ولا نستطيع أن ننطق بكلمة نقول فيها إننا حفاة، عراة، جياع، سلمتم أعناق زعمائكم للجلاد ودفعتم بالأحرار إلى غياهب السجون منذ عام 1948، فذبح من ذبح، ومات من مات، وهاجر من هاجر… وأنتم تطبلون وتزمرون وترقصون على أشلائهم، وقد عميت أبصاركم وزاغت أفكاركم وعقولكم {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}، فماذا عملتم بالنقيب عبد اللطيف قايد بالراجح الأب الروحي الأشم… سلمتموه للمقصلة كما سلمتم بأيديكم كل زعيم روحي وقائد حر أراد لكم الحياة وأردتم له الموت لأنهم هاجروا أوطانهم لكي يرفعوا عنكم جيش التخطيط الممقوت الذي حل فيكم منذ 45 سنة.
وها أنا أموت قرير العين، إنني نصحت الإمام، ونبهت الشعب ليعرف ما أحاق به من ظلم القرون، وسحقاً للطغيان.
وقال: إننا نتألم لإخواننا في الجزائر وما أصابهم من ظلم فرنسا ولكنهم أسعد حالاً فإنهم يأملون في الحرية، أما نحن فقد ضاعت آمالنا وزاغت أبصارنا ولا ندري ما يراد بنا، ولكن الله لن يضيع أبناء اليمن وهو القائل : {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ}، إنني اليوم أُقتل ظلماً، وإن دمي في عنق الذي أمر بقتلي مخالفاً بذلك شريعة الإسلام والله يأمر بعدم قتل النفس بغير حق، يا أبناء اليمن إن عليكم أن تنقذوا أنفسكم من هذا الظلم الصارخ وقد صار ذلك عليكم فرضاً، ومن تخلى منكم فإنه خائن لأمته ودينه، هذا واجب مقدس، فلا تمزقنكم المذاهب ولا الأحقاد، وكفى ما بنا.
وبكى السيد المرحوم، ولكنه قال: والله ما بكائي على نفس ذاهبة إلى باريها ولكن بكايا عليكم وعلى ما أصابكم ويصيبكم، وإنني ملاقٍ ربي راضياً مسروراً بعد أن أديت ما عليّ نحوكم، وقد نصحت الإمام فأبى إلا كمّ فمي وقطع لساني، فعليكم سلام الله).
أحدث إعدام الأهدل رد فعل عنيفة تجلت في الكتابات الصحفية خاصة بعدما وصفته الصحف بأنه أحد عقلاء اليمن معلقاً على الخطاب الذي ألقاه العلامة عبد القادر الأهدل في المنصورية، واهتم التهاميون واليمنيون الأحرار بفحواه ونجواه، فقال هذا: لقد قال السيد الأهدل حقاً ونطق صدقاً، فإنه ما كان يؤمل من إمام للمسلمين غير تحقيق كل خير، وكان المفروض أن يطبق في اليمن نظام الشورى الإسلامية حتى تعمل في اطراد على ترقية الشعب وإصلاح حالة البلاد بتوظيف الرجال الأكفاء من ذوي العلم والفن والخبرة والاستعانة بمواهبهم واستقدام خبراء فنيين من البلدان الراقية المتقدمة في الحضارة لمساعدة اليمن على الخروج من الأنظمة العتيقة في الاقتصاد والزراعة والثقافة والمالية ونظام الزكاة، وتوطيد أسس لها تتمشى مع مقتضيات الزمن ومتطلبات المدنية واستيراد الحكماء والأطباء والجراحين الذين يتمكن الناس من الشفاء على أيديهم ووضع أبدانهم وأرواحهم تحت رحمتهم على الأقل في أهم المدن والعواصم، ولكن المسئولين في هذه لا يأمنون الخبراء المستشارين من الخارج وربطوا كل شاردة وواردة بعجلة إداراتهم الشخصية وتركوا البلاد عاليها سافلها، واستخدموا من الناس من قل خيره واستفحل في الناس شره، جاهلاً لا يدرك أو قليل فطنة لا يملك من الخير شيئا، وفاقد الشيء لا يعطيه سيما والمرتبات ضئيلة لا تكفل لهم عيشاً ولا كنفاً مما يضطرهم إلى الفساد والرشوة وسلب أموال الناس بالباطل على مرأى ومسمع من الحكومة المتوكلية، وقد تعمدت هذه الحكومة -هداها الله- على القضاء على كل أسباب الثقافة العصرية، ولم نسمع سوى بجلب علماء أزهريين يقومون بالوعظ الديني والإرشاد ومصاريفهم على حساب الجمهورية العربية المتحدة، ولهذا ظل أبناء اليمن في ظلام الجهالة ودياجير الفقر والمرض، وحتى صحف عدن التي تلمس أدواءنا وتعرف عوراتنا التي هي أبصر بمقتضياتنا لا تجد التشجيع على الانتشار في ربوعنا،… وقد قسمت البلاد إلى إقطاعيات، لواء تعز للسياغي، ولواء إب للثلايا ابن خال جلالة الإمام، وقد جرى هذا الظلم على الأمة منذ مئات السنين وحدث قبل ثلاثمائة سنة أن جماعة قال للإمام إسماعيل -المتوكل على الله- إن أموال الشعب كلها أصبحت في قبضة الحكومة والإمام وأن الناس في فقر وجوع فأجابهم: “والله ما خوفي إلا على ما بقي بين أيديهم، فإن الله سوف يسألني عنه وكيف تركته لهم يطغيهم وينسيهم باريهم”.. ومن مخطوطات تركها الإمام يحيى بخط يده قوله: “من علامات بقاء سلطان الدولة الاستعانة على الرعية بالفقر والجهل”، والإمام أحمد نفسه طالما ردد قوله: “جوع كلبك يتبعك”، وقد أصبح رجال اليمن ورؤساء العشائر غير آمنين على أنفسهم بعد إعدام حسين بن الأحمر بعد أن أمنه الإمام وكذا الشيخ سنان أبو لحوم الذي فر إلى عدن والناس مشتتون فإنا لله وإنا إليه راجعون. (جريدة فتاة الجزيرة، العدد 1297، 29 رمضان 1379هـ / 4 إبريل 1960م، صـ 2- 4)
ملخص لترجمة حياته
عبد القادر الأهدل (1308- 1380هـ / 1890- 1961م)، من اسرة عريقة وتنتهي بنسبها الى سيد الشهداء الامام الحسين بن علي بن ابي صالب رضي الله عنهم ، عالم تقي فاضل في علم الشريعة واللغة والصرف وله فيها مؤلفات عديدة منها: همع الهمع في أحكام القصر والجمع، وله في النحو كتاب يشرح أحوال التقاء الساكنين، وله حاشية الأسئلة النحوية في حواشي الأجرومية، وله كتاب أحكام القضاء… وغيرها كثير.
نفذ حكم بإعدامه بعد أن سجن في حجة أربعين يوماً عقب الخطبة، وقد أعدم بحجة، يوم السبت 27 شوال 1379هـ / 23 إبريل 1960م.