الحديدة نيوز / محمد الشميري
“من خلال دراستي للإعلام، سأحكي للأجيال القادمة أني فتاة نازحة أعمل في مهنة نقش الحناء، للمساعدة في مصاريف أسرتي ولتغطية نفقات دراستي الجامعية” بهذه الكلمات بدأت (غانية فتيني، 23 عام) سرد قصتها بصوت مليء بالأمل وبقوة عزيمة تفوق الحرب.
نقش الخضاب: هو نوع من الزينة التقليدية للنساء في اليمن، يقوم على تزيين أيدي النساء بنقوش زخرفية متناسقة. باستخدام مادة سوداء اسمها الخضاب (المصنوع من شجرة الحناء ومكونات أخرى). إذ تحرص معظم النساء على نقش أيديهن، وأقدامهن أيضا في بعض الأحيان، باعتبار ذلك أحد الطقوس الاحتفالية بالأعياد والأعراس.
بوجه بشوش وابتسامة مضيئة بالطموح والأمل، تتنقل غانية بين منازل زبوناتها في مدينة الحديدة، كي تمارس مهنتها بتزيين النساء بنقش الخضاب.
مضى عامان منذ نزحت غانية، مع عائلتها، من “قرية منظر” الواقعة بمديرية الدريهمي جنوب مدينة الحديدة. تقول “كنا نعيش في قريتنا بأمان ونتشارك أفراحنا مع أهل القرية، كنا أسرة ميسورة الحال، نملك بيتا تعيش فيه اسرتنا المكونة من ابي و أمي وخمس بنات وثلاثة أخوه مع زوجاتهم، لم يكن بمنزلنا الكثير من الأثاث لكنه مملوء بالحب والأمان كان أبي يعمل جاهدا ليوفر لنا ما نسد به جوعنا حتى جاءت الحرب فخلقت الكثير من الصعوبات المعيشية مع الارتفاع الجنوني للأسعار وانقطاع الرواتب مع انعدام فرص العمل.
تجربة أولى للاعتماد على الذات
منذ السنة الثانية للحرب انقطعت رواتب موظفي الدولة، ومنهم والد غانية. تقول: “مررنا بأزمة معيشية خانقة خصوصا مع تعذر حصول أخوتي على فرص عمل. حينها كنت طالبة في المدرسة الثانوية بقريتي، ووجدت نفسي بين خيارين؛ إما أن أترك دراستي أو أن أحصل على عمل، رغم أني في الريف ومن الصعب الحصول على فرص عمل تتناسب معي كفتاة. وبالفعل صرت أعمل في طحن حبوب الدخن لدي سيدة مشهوره ببيع “الكدر” والعيش الحامض (و هو نوع من الخبز التقليدي في تهامة)، وكانت تعطيني أجرا لا يتجاوز 300 ريال (نصف دولار) في اليوم الواحد، هو مبلغ ضئيل لكنه ساعدني على إكمال دراستي الثانوية، ليتوقف مشواري المراسي بعدها، حيث لم يكن بمقدوري تحمل تكلفة المواصلات يوميا إلى مدينة الحديدة لدراسة الجامعة، كما لا أستطيع الانتقال للسكن في المدينة بينما أسرتي في القرية”.
عيد الموت والنزوح
في كل عيد فطر يصحو الناس على أجواء المصافحة والسلام، ولكن في قرية منظر كان عيد الفطر الذي شهدته محافظة الحديدة عام 2018م مأساويا. ففيه كانت معركة الحديدة في أوجها مع وصول القوات القادمة من الجنوب إلى قرية منظر حيث تعيش غانية. تتذكر غانية تفاصيل ذلك العيد: “يومها اختلطت تكبيرات العيد بأزيز الرصاص وأصوات الانفجارات داخل القرية وما حولها. كانت الاشتباكات قد اقتربت جدا من القرية، لازلت أتذكر هلع الاهالي وصرخات الأطفال مع كل إنفجار يهز القرية، وبدلا من الألعاب النارية التي اعتدنا عليها في الأعياد لتبشير الناس بالفرح، كانت الانفجارات ضربات ساحقةتخطف الأرواح. راح ضحيتها أكثر من 11 قتيل في اليوم الأول إلى جانب العديد من الإصابات، وهو ما جعل من النزوح ضرورة حتمية فغادرنا القرية عصر يوم عيد الفطر، متجهين إلى مدينة الحديدة سيرا على الأقدام لا نحمل سوى أرواحنا وأحلامنا وأمل بسيط بأن الحرب لن تدوم في القرية غير أيام معدودة. وبعد ساعات طويلة من السير تحت وقع الانفجارات وصلنا إلى الحديدة في ظلام ليل عيد أتمنى ألا يتكرر”.
تواصل غانية سرد قصتها: “عند وصولنا مدينة الحديدة لم يكن لنا خيار غير اللجوء إلى أهلنا هناك، حيث نزلنا ضيوفا لمدة أسبوع في بيت أقارب أمي، ثم انتقلنا إلى بيت آخر لم يطل مكوثنا فيه طويلا لننتقل إلى منزل آخر، وهكذا استمر بنا الحال لشهر كامل حتى استأجرنا بيتا في الحديدة وانتقلنا للعيش فيه رغم عدم تجهيزه بالأثاث ومستلزمات السكن فكل ممتلكاتنا بقيت في قريتنا”.
كثيرا ما حاول والد غانية وأخوتها الحصول على عمل لتغطية احتياجات بيتهم الجديد لكن دون نتيجة مجدية، فاقتراب الحرب من المدينة أدى إلى نزوح الكثير من الشركات والمحلات إلى خارج محافظة الحديدة، لتجد غانية نفسها أمام تحدي آخر، حيث تقول: “رأيت أسرتي عاجزين عن توفير مصاريفنا وإيجار المنزل، وغير قادرين على شراء علاج أمي التي تعاني من تشوهات دماغية وأختي التي تعاني من شحنات كهربائية في الدماغ، كان ذلك كافيا كي يوقد داخلي جذوة الكفاح، فقررت العمل في مهنة نقش الحناء التي كنت قد تعلمتها في قرية منظر.”
وبالفعل، شرعت غانية في العمل متحدية كل الصعوبات، فبدأت بزبائن من جيرانهم، كانت بنات الجيران متخوفات من احتمال فشلها في نقش الاشكال الإبداعية على أيديهن كما ينبغي، الا أنها أتقنت النقش بحرفية عالية جعلتهن يتحدثن عنها لصديقاتهن من الفتيات، لتبدأ الطلبات تصل إليها بشكل أكثر.
عودة الحلم
كانت غانية قد غادرت قريتها مجبرة، لكن طموحها لم يغادر مخيلتها حيث تقول: “في كل مرة أسير فيها من أمام مبنى كلية الآداب التابعة لجامعة الحديدة، كان حلم إكمال دراستي يعاودني من جديد، وفي كل مرة يكون الدافع أكبر حتى اتخذت قراري بالالتحاق بقسم الإعلام. وبالفعل بدأت الدراسة معتمدة على جزء من إيرادات عملي في النقش، كي أنفقه على دراستي، أما الباقي فكنت أساعد به أهلي في دفع إيجار ومصاريف البيت والعلاج…”
في كل صباح تتجه غانية من منزلها إلى الكلية سيرا على قدميها لمسافة تزيد عن ثلاثة كيلومتر للحاق بمحاضراتها، ثم العودة إلى المنزل لتناول وجبة الغداء، وبعدها تنطلق إلى العمل الذي تختلف أوقاته بناء على عدد الفتيات والوقت المتفق عليه.
وكإثبات لمقولة “النجاح يولد من رحم المعاناة” كللت غانية سنتها الدراسية الثانية بنيل المرتبة الأولى بين زملائها في الفصل الثاني لعام 2020/2019م بعد أن استطاعت تنظيم وقتها بين الدراسة والعمل، تقول: “في البداية تعبت كثيرا حيث لم يكن الوقت كافيا للمذاكرة وإنجاز الواجبات الدراسية، فالعمل يستهلك أغلب وقتي، ثم وجدت الحل في تخصيص ساعات الفجر للمذاكرة، بعدها أذهب إلى الجامعة، وتبقى فترة ما بعد فترة الظهيرة للعمل.”
مساعدة الآخرين
تطمح غانية أن تكون مذيعة مشهورة على مستوى عالمي. تقول: “أتمنى أن أملك الكثير من المال كي أستطيع إنشاء مشاريع خيرية للأيتام والأرامل، وكي أكفل المحتاجين وأطفال الشوارع، أريد ايضا بناء أكبر سكن جامعي للفتيات في مدينة الحديدة لاستضافة بنات الريف الراغبات في استكمال التعليم الجامعي.”
في طموحات غانية ومشاريعها المتخيلة لتمكين فتيات الريف من التعليم الجامعي، ما يدل على إدراكها لمدى مشاعر الألم التي تعتصر قلوب تلكم الفتيات المحرومات من تحقيق أحلامهن بسبب الظروف المعيشية التي زادتها الحرب سوءا بأضعاف ما كانت عليه. فهي قد ذاقت مرارة ذلك الشعور قبل أن تبدأ الاعتماد على نفسها مستفيدة مما تكسبه من عملها. في حين هناك الآلاف من فتيات عاجزات أمام حرب تسلب الأرواح والأحلام. ولعل أصعب حالات المعاناة تكمن لدى النازحات منهن…
عن النازحات
يؤكد صندوق الأمم المتحدة للسكان على موقعه الالكتروني أنه من بين 4.3 مليون نازح في السنوات الثلاث الماضية، حوالي نصف النازحين من النساء، وأن نسبة 27 في المئة منهن دون سن 18 عامًا.
ويشير الصندوق إلى أن “تصاعد النزاع وما تبعه من تداعيات إنسانية، أدى إلى إضعاف مكانة النساء والفتيات في المجتمع اليمني، مما أدى إلى تآكل شبه تام في آليات الحماية الخاصة بهن وزيادة تعرضهن للعنف وسوء المعاملة، وأن آليات التكيُّف التي يعتمدن عليها استنفدت أقصى إمكاناتها، وهن أكثر الفئات تضررًا ومن يدفعن الثمن الباهض كما هي الحال غالبًا في الأزمات الإنسانية”.
وعن المخاطر التي تواجهها النساء في مخيمات النزوح، يفيد التقرير أنه: “مع قلة خيارات الإيواء المتاحة، تعاني النساء والفتيات النازحات هناك في العادة أشد المعاناة من جراء الافتقار إلى الخصوصية، والتهديدات لسلامتهن، وقلة فرص الحصول على الخدمات الأساسية، وهو ما يجعلهن أكثر ضعفا وعرضةً للعنف والإساءة من أي وقت مضى”
أما تفسير هذا الأمر فيحدده التقرير كما يلي: “تشتد الضغوطات أكثر حينما تجد النساء أو الفتيات أنفسهن مسؤولات عن إعالة أسرهن، لكن هن أنفسهن حُرِمن من التعليم الأساسي أو التدريب المهني الذي يُمكِن أن يؤهلهن لخوض سوق العمل. وفي غياب تمكين ودعم كافيين، تصبح النساء والفتيات معرَّضات للقبول بإستراتيجيات تكيُّف سلبية مثل زواج الصغيرات وعمالة الأطفال”.
مضيفا أن: “فقدان الرجل (عائل الأسرة) لأسباب تتصل بالصراع، يضاعف الأعباء الاقتصادية التي تواجهها النساء، لا سيما في حالة الأسر التي تعولها نساء.”
فمتى تتوقف الحرب كي تتوقف المأساة؟