نظريات مناهل ثابت نموذجاً..
عندما نعيد إنتاج رياضيات الكم فلسفياً نكتشف أزمة الجدوى التي نعيشها..!!
بقلم / هايل المذابي
في المناظرة التاريخية الشهيرة بين عالم اللسانيات نعوم تشومسكي و ميشيل فوكو عام 1971م كان فوكو قد انتصر للجماعة فيما يخص الإبداعات العلمية في حين انتصر تشومسكي للإبداع الفردي و أيده بدعوى أن الفرد يبحث في كل ما يجده غريباً و هو بذلك ينتصر أيضاً للقاعدة العلمية التي لا يؤيد فكرتها فوكو..
إن دراسة الفرد – أي تلك الظواهر التي لا شبيه لها بمعزل عن الجماعة- و دون النظر بشمولية للعصر الذي تعيش فيه و متغيراته و ما يحدث فيه هو فكر ماركسي بامتياز و أيضاً فإن دراسة الجماعة و العصر و الأحداث باعتبارها كانت سبباً في إنتاج إبداع الفرد هو فكر بنيوي رأسمالي.. وهنا يمكن طرح سؤال : كيف يمكن قراءة حالة إبداعية فردية في مجال الرياضيات الكمومية و الفيزياء كحالة الدكتورة مناهل ثابت وفقاً لمنهج نعوم تشومسكي و منهج فوكو في آن؟؟.
في بحث لها منشور في مجلة علمية محكمة (open-science-repository) بعنوان : “Quantum Mathematics in Relation to Quantum Physics” مسجل بالرقم “10.7392/openaccess.23050410.” تؤكد فيه مناهل ثابت إمكانية توظيف الفيزياء الرياضية الكمومية لإعادة صياغة الأنظمة كما يمكن لعلماء الرياضيات الكمومية صياغة نظرياتهم في هذا العلم بطريقة فلسفية و سيكون لها القدرة على التغيير في حياة الأفراد و الأنظمة و إمكانية هذا التغيير تعتبرها حتمية…!!!!
لمن لا يفهمون الرياضيات الكمومية و علاقتها بالفيزياء و إمكانية إعادة صياغتها وفقا لقواعد صياغة النظريات الفلسفية، خصوصاً لأنه مجال شحيح جداً في الوطن العربي، من حيث المجلات التي تهتم بالأبحاث الإبداعية في هذا المجال، أو حتى في المراكز الخاصة بذلك، لا سيما بعض المراكز المستحدثة مؤخراً في دولة الإمارات العربية المتحدة، كان أهم أسباب ذلك الاستحداث هو مناهل ثابت، كمركز الابداع و الابتكار، و في مجال الفضاء مركز الشيخ القاسمي لعلوم الفضاء بالشارقة، و يمكن إعادة صياغة الفكرة و تبسيطها بالشكل التالي، يقول ديكارت تعبيراً عن منهجه الفلسفي في البحث العلمي “أنا أفكر إذن أنا موجود” هذه المقولة يمكن صياغتها وفقاً لعلوم الرياضيات الكمومية، كما حصل فعلاً، بمقولة “الواقع غير موجود حتى نقيسه” أو “الواقع غير موجود حتى نبحث عنه”..!!
و بناءً على ما طرحناه من سؤال في بداية هذه المقالة: كيف يمكن قراءة ظاهرة إبداعية كمناهل ثابت انطلاقاً من شغفها بالأرقام، و ذلك الشغف في أبحاثها؟ يمكننا إعادة انتاج تلك الأرقام الرياضية فلسفياً، دون أن نفصلها عن سياق العصر الذي نعيشه، و هو عصر الطفرة العظيمة للتكنولوجيا و الرقميات، و لعل العودة قليلاً إلى الاعتبارات التاريخية سيبسط الفهم أكثر…
منذُ أن وُجد الإنسان على ظهر الأرض، و هو يتنازعه إحساس بأنه لا ينتمي إلى هذا العالم، فهو دائمًا يجد في نفسه ما يجعله مفارقًا (للطبيعة/المادة) من حوله، فالمسافة بينه و بين الموجودات من حوله شاسعة، و الهوة كبيرة، لا يمكن سبر أغوارها، حتى و إن تشابه التكوين البيولوجي للإنسان مع التكوين البيولوجي لأرقى أجناس الحيوانات كما قال دارون، لأن الاختلاف مع الموجودات من حوله اختلافٌ كيفي و ليس كمي. فهو يشعر دائمًا أنه إنسان رباني ليس إنسانًا داروينيًا ماديًا، إلا أن ذلك الإحساس الميتافيزيقي لم يجد قبولًا عند بعض التيارات الفكرية التي تعتنق الفكر المادي، و التي تنكر وجود إله خالق للإنسان والطبيعة، أو على الأقل تحيد عن التفكير في هذه المسألة، كالتيارات “الإلحادية”، و “لا أدرية”. وقد شهدت هذه التيارات رواجًا و قبولًا داخل الحضارة الغربية الحداثية أواخر القرن التاسع عشر و أوائل القرن العشرين لظروف تاريخية متعلقة بفساد الكنيسة الكاثوليكية فترة العصور الوسطى، و ما أعقب تلك الفترة من تحقيق إنجازات علمية كبرى في العلوم الطبيعية، أغرت الغرب بالقول على لسان نيتشه أن الإله قد مات! و نتيجة لذلك ظهرت العديد من الأبحاث و الدراسات التي حاولت دراسة الظاهرة الإنسانية باعتبارها ظاهرة مادية/ بيولوجية، ليست لها أية أبعاد ميتافيزيقة، فالميتافيزيقا بنظر معتنقي هذه الأفكار مجرد خرافة! و كان من بين تلك الأبحاث التي ظهرت في هذه الفترة بحث “جرانت ألين” الذي لخصه سلامة موسى في كتابه “نشوء فكرة الله”. و من الجدير بالذكر أن هذه التيارات بدأت تضعف بشكل كبير مع حديث العلماء و فلاسفة ما بعد الحداثة عن أزمة المعنى، و تضاعف رقعة المجهول نسبة إلى رقعة المعلوم، رغم الاكتشافات العلمية الضخمة التي يحققها العالم في مجال العلوم الطبيعية الآن.
من هذا يمكن اعتبار تلك الأبحاث في رياضيات الكمومية و الفيزياء و مناهل ثابت نموذجاً، تعبيراً عن حاجة ملحة لما يعيشه هذا العصر من أزمة للجدوى و المعنى، خصوصاً في ظل هذا الهوس التكنولوجي و الحداثي الذي أصيب به العالم، و في ظل فساد الأنظمة و الفساد الديني، و التطرف في العالم، و في ظل تلاشي الماورائيات كنتيجة لذلك التطرف و ذلك الفساد الديني، و لكن ليس بالضرورة أن تكون هذه الفكرة حاضرة بهذا الوعي كاملاً لدى مناهل ثابت أو غيرها من العلماء في هذا المجال أو غيره من العلوم التطبيقية و الطبيعية، بل إنها تتشكل في اللاوعي لديهم ثم تأتي على شكل أبحاث علمية بحتة عندما نعيد قراءتها وفقاً لمعطيات العصر نستطيع أن نلمس فيها أزمتنا بما فيها من أنظمة فاسدة و أيضاً الأفكار المناسبة لحل تلك الأزمة و تفكيكها و إحلال أنظمة جديدة بدلاً لها..
بوضوح أكثر يصبح العالم أحادياً في ظل فساد المؤسسة الدينية و فساد الأنظمة و يجعل ازدهار ثقافة الفكر الواحد و القطب الواحد أكثر شيوعاً لأن القطب الآخر و هو المعنى و الجدوى يختفي و يتلاشى و يتسيد الشكل في هذا العالم بما له من مظاهر تعنى بالماديات، و العلوم التطبيقية بالضرورة تدافع عن وجود المعنى و الإنسان و إعادة التوازن للعالم بحيث لا يصبح أحادياً أو ذا بُعدٍ واحد، فالأرقام في عالم الرياضيات هي إشارة إلى ما ورائيات الشكل و هو المعنى و تقدم حلولاً ناجعة من أجل حلّ ذلك الفساد الذي يحكم العالم في شتى المجالات.
أختم أخيرا بالقول أن مما أدهشني في بحث الدكتورة مناهل و المذكور آنفاً هو أنه ينتصر للمعنى من خلال الشكل، لكنها لم تؤكد بصريح الكلام أن الله موجود وهو سبب الوجود و هذا أحد مظاهر أزمة المعنى التي تسبب فيها طغيان الشكل و تسيده، و لم تستدل في ذلك بدليل ديني لأنها ستكون هرطقة حينها، بل من خلال ثغرات في النظريات الإلحادية و الوجودية و التي تثبت مناهل عكسها بالنظرية الحسابية و عن طريق الأرقام فقط.