الحديدة نيوز / بقلم عريب الرنتاوي/الحرة
في واحدة من آخر مقابلاته الصحفية، تنبأ أشهر الصحفيين العرب، محمد حسنين هيكل بـ”غرق السعودية في المستنقع اليمني”. ومع أن كثيرين غيره كانت لهم وجهات نظر مشابهة، إلا أن “نبوءة” هيكل اكتسبت أهمية مضاعفة لسببين: الأول؛ أنه من أشهر وأهم الصحفيين الذين عرفهم العرب في القرن العشرين، إن لم يكن أهمهم وأشهرهم على الإطلاق. والثاني؛ أنه كان مقربا من دوائر صنع القرار في مصر الناصرية، عندما غرق الجيش المصري في أوحال الحرب اليمنية، وخرج منها منهكا، ما زاد في فرص هزيمته عند أول مواجهة له مع الإسرائيليين في حرب الخامس من حزيران عام 1967.
انقضت ثلاثة أعوام ونصف العام منذ أن دشن التحالف العربي حربه على اليمن. لا تزال الحرب، التي قيل بعد عدة أسابيع على اندلاعها أنها حققت أهدافها لتحمل اسم “استعادة الأمل” بدلا عن “عاصفة الحزم”، بعيدة عن أن تضع أوزارها. لا “الحزم” أفضى إلى الحسم، ولا الأمل استعيد على ما يبدو، بعد أن تعاظمت الكلف الإنسانية للحرب واتسعت ساحاتها وأخذت تطاول العمق السعودي (والإماراتي إن صحت الأنباء عن استهداف مطاري دبي وأبو ظبي بطائرات مسيرة)، فضلا عن المعارك الدائرة على الأرض السعودية في المحافظات المجاورة (جيزان، نجران وعسير).
يريد التحالف تسجيل نصر في “الحديدة”، على أقل تقدير، قبل أن يعطي الضوء الأخضر لانطلاق مشاورات ومفاوضات ذات مغزى
بعد سلسلة من المحاولات الفاشلة لإنجاز تسوية سياسية للأزمة اليمنية بذلها موفدون أمميون متعاقبون، يسعى مارتن غريفيت إلى ترتيب مائدة مشاورات تجمع الأطراف ذات الصلة. أخفقت محاولته الأولى في جنيف بعد أن فشلت جهوده في إيصال وفد الحوثيين إلى مقر الاجتماعات، في ضوء الاشتراطات والاشتراطات المقابلة التي وضعتها الأطراف لسفر وفد الحوثيين، لكن الرجل لم ييأس على ما يبدو، وها هو يسعى في كل من مسقط وصنعاء للترتيب لجولة ثانية.
بين الجولتين، الفاشلة قبل أسبوعين وتلك التي يجري التحضير لها، شهدت جبهات القتال أعنف المواجهات والمعارك في مسعى من قوات التحالف وحلفائها من أنصار الرئيس عبد ربه منصور هادي لكسر شوكة الحوثيين وإرغامهم على تقديم تنازلات تكفي لرسم صورة “النصر” الذي تبحث عنه عواصم التحالف، لاسيما وأن هذه الأطراف بدأت تدرك أن “هامش المناورة” أمامها أخذ يضيق وأن الوقت المتاح لها لتحقيق انقلاب في المشهد الميداني بدأ ينفذ.
وفقا للمراقبين للأزمة اليمنية، فإن سباقا محموما يجري الآن بين جهود السيد غريفيت ومحاولات فريقه استخراج حل سياسي للأزمة من جهة والتصعيد الميداني الرامي لتحقيق اختلال في موازين القوى على الأرض من جهة ثانية. والأرجح أن الأسابيع القادمة التي تفصلنا عن الجولة الثانية التي وعد بها الموفد الأممي، ستكون حافلة بالتطورات الميدانية والمعارك المحتدمة على مختلف جبهات القتال.
توالت تقارير المنظمات الحقوقية والإنسانية الدولية، عشية الجولة الأولى الفاشلة من المشاورات اليمنية في جنيف، تكشف الصور المريرة لأسوأ كارثة إنسانية عرفتها الإنسانية في عصرنا الراهن. وبدا من مداولات مجلس الأمن، أن المجتمع الدولي أخذ يضيق ذرعا بهذه “المأساة المنسية”. وتعاظمت الضغوط على قيادة التحالف السعودي لوقف الحرب في اليمن، وارتفعت الأصوات في دول الغرب الصناعية المطالبة بوقف تزويد السعودية والإمارات بالأسلحة التي يجري استخدامها في الحرب على اليمنيين. وحملت تقارير أممية قوات التحالف المسؤولية عن مقتل غالبية المدنيين اليمنيين. ما بدا أنه ضغط غير مسبوق، تتعرض له قوى التحالف لوقف الحرب، حتى وإن لم يتسن لها تحقيق أهدافها بإلحاق هزيمة معترف بها بجماعة “أنصار الله”، وإعادة “الشرعية” إلى صنعاء، كما أعلن في بداية عملية “عاصفة الحزم”.
لكن المصادر المطلعة تقول إن التحالف كان يريد تسجيل نصر في “الحديدة”، على أقل تقدير، قبل أن يعطي الضوء الأخضر لانطلاق مشاورات ومفاوضات ذات مغزى في جنيف، لاسيما وأن محاولته الأولى للسيطرة على المدينة وإخضاع مطارها ومينائها لرقابته الأمنية والعسكرية المباشرة قد فشلت. وتعزو المصادر ذاتها، تعطيل سفر وفد الحوثي إلى جنيف، إلى إصرار التحالف على تحقيق “نصر” كهذا. وهذا ما ألمح إليه على أية حال، الموفد الأممي ذاته، عندما تحدث عن “رغبة جادة” لمسها عند الحوثيين للمشاركة في المشاورات وعن فشل المنظمة الدولية في تأمين وصول وفدهم إلى جنيف وضمان عودته إلى صنعاء من دون المرور بمطارات دول التحالف أو خضوع الطائرة التي تقله لإجراءات الفحص والتفتيش من قبل السعودية أو الإمارات.
ولعل ما يؤكد صدقية هذه المعلومات والتوقعات، أن المعارك الكبرى اندلعت على جبهات “الحديدة” الشرقية والجنوبية، صبيحة اليوم التالي للإعلان عن فشل المشاورات في جنيف، وتتالي الأنباء عن “هجوم ذي طبيعة استراتيجية” تقوم به قوات هادي، بدعم كثيف من التحالف السعودي، لتقطيع أوصال الحديدة توطئة للسيطرة عليها أو أقله على مطارها ومينائها الاستراتيجيين.
دعمت الولايات المتحدة، وفي سياق حالة التصعيد ضد إيران وحلفائها، موقف التحالف، وصرح وزيرا خارجيتها ودفاعها، مايك بومبيو والجنرال ماتيس، أن التحالف يعمل ما بوسعه لتجنيب المدنيين آثار الحرب وتقليص الخسائر في صفوفهم. وفي المعلومات التي تتداولها بعض الأوساط القريبة من الملف اليمني في المنطقة، فإن واشنطن أعطت الضوء الأخضر للتحالف للمضي في معركة الحديدة قبل التئام مائدة المشاورات من جديد، على أمل أن يأتي “وفد الشرعية” إلى جنيف من موقع المنتصر القادر على إملاء شروط مواتية لعواصم التحالف السعودي ـ الإماراتي، وهذه “ورقة القوة” الرئيسة، حتى لا نقول الوحيدة، التي ما زالت بيد قوى التحالف السعودي.
والحقيقة أنها ليست المرة الأولى التي تستجيب فيها الولايات المتحدة لطلب دول التحالف بإعطائها المزيد من الفرص لتسجيل نصر حاسم في اليمن، فقد تكرر المشهد مرات عديدة، منذ إدارة باراك أوباما وحتى اليوم، في حين ظلت معارك الكر والفر هي سيدة الموقف في الحرب اليمنية، ولم تستطع الأطراف جميعها حسم الموقف العسكري لصالح أي منها.
لا رابح في حرب اليمن العبثية المكلفة، وهي قد تؤسس لجولات جديدة من المعارك والحروب الإضافية
ويستذكر كثير من المراقبين والمحللين السياسيين في معرض تناولهم لحرب في اليمن وعليها، مقولة محمد حسنين هيكل بين الحين والآخر. فالحرب هناك أبعد ما تكون عن أن تضع أوزارها. وليس ثمة مؤشرات دالة على أن مصائر الجولة الجديدة من المعارك على “الحديدة” ستكون أفضل من مآلات الحملة السابقة على مطارها ومينائها.
وثمة تطورات يمنية ودولية، تزيد في حرج قيادة التحالف السعودي وحربه المفتوحة في اليمن، لعل أهمها اثنان: الأول؛ أن الحرب الاقتصادية التي شنها التحالف على خصومه الحوثيين، بعد نقل البنك المركزي لعدن من صنعاء وضخ كميات هائلة من العملة المحلية في الأسواق وقطع الرواتب عن الموظفين العمومين في الشمال لم تترك تأثيرات سلبية على الحوثيين وبيئتهم الحاضنة فحسب، فقد اندلعت التظاهرات والاحتجاجات جميع المحافظات الجنوبية، وعلى نطاق أعنف وأوسع مما حدث في الشمال، مما يهدد بتقويض سلطة هادي ويفقدها ما تبقى من شعبيتها في المحافظات “المحررة”.
والثاني؛ تنامي حملة الانتقادات الدولية للزعيم السعودي الشاب الأمير محمد بن سلمان، وتحديدا في عواصم الغرب، إذ لم تبق واحدة من كبريات الصحف ووسائل الإعلام الغربية، إلا وأفردت مقالا أو تحقيقا عن “فشل الأمير”، “ذي الخبرة المحدودة”، والموصوف في تلك الصحف بـ”التهور والمغامرة”، بل وعن قرب نهايته أو “أيامه المعدودات”، كما قالت صحيفة التايمز مؤخرا. وقد رصد ناشطون أكثر من أربعين مقالا وتحقيقا نشرت جميعها خلال الأشهر القليلة الفائتة، وفي وسائل إعلام غربية رائدة، وتناولت جميعها هذه الجوانب في شخصية الأمير السعودي.
والخلاصة أن أحدا لا يدري ما الذي يدور في خلد الموفد الأممي، وهل هو جاد فعلا في الترتيب لعقد جولة ثانية من المشاورات اليمنية، وهل سيكون بمقدوره أن يذلل العقبات التي أطاحت بالجولة الأولى منها في جنيف. لكن المؤكد أن الكثير من هذه الأسئلة والتساؤلات، سيجاب عليها في ساحات المعارك المحتدمة على جبهة “الحديدة”، فهي قد تفتح الباب للعمل على إنجاز اتفاق محكوم بمعادلة “خاسر ـ خاسر”، فلا رابح في حرب اليمن العبثية المكلفة، وهي قد تؤسس لجولات جديدة من المعارك والحروب الإضافية، قبل أن تحسم واشنطن أمرها، وتقرر أنه قد آن الأوان، اليوم وليس غدا، لوقف شلال الدم الجاري في اليمن الذي كان سعيدا ذات يوم.
ــــــــــــــــــــ