رحم المعاناة ، في قريتنا مدرسة..

‏  8 دقائق للقراءة        1499    كلمة

الحديدة نيوز -منير علوان-القاهرة :

منذ فجر التاريخ وقريتنا تعاني بدون وجود مدرسة فيها. في القرية التي يحتضنها جبل حصن شمر يهرعش حيث عاش الحميريون ومن قبلهم حضارات كثيرة ومن بعدهم عدة حضارات. ربما كان هنالك مدرسة يوم ما في عهد المكاربة لكننا لا نعرف ولا يوجد دليل على ذلك. من بعدهم بفترات تاريخية جاء الاسلام ودخل اليمنيون في الدين الجديد برسالة ومن ثم ولى علينا الرسول محمد صلى الله عليه وسلم مبعوثه معاذ ابن جبل الذي بنى جامع ومدرسة في تعز ولكن قريتنا التي تقع في الشمال الشرقي لمحافظة إب لم تكن حتى قد سمعت بمدرسة معاذ. وجاء بعد معاذ رضي الله عنه عدة ولآة وتعاقبت الامارات والدول على اليمن بشكل عام ولكن أيا من الأمويين او العباسيين او الطاهريين او الرسوليين او الأيوبيين ليس منهم احد قد فكر بعمل مدرسة في تلك القرية التي طالما احتاجوها جميعا في حروبهم. وحتى خلال اكثر من 150 عام من الحكم العثماني الأول والثاني على اليمن بقيت القرية بدون مدرسة. وفي مطلع القرن العشرين ومع حكم المملكة المتوكلية لشمال اليمن كان جدي يتعلم قراءة القران عند الفقيه مقابل ان يقوم الطلبة بعمل خدمات للفقيه سواء مساعدته بالزراعة او الرعي او اي اعمال اخرى ، ومن بعده كان والدي خلال الشهر الذي ذهب فيه إلى “الكُتاب” ما بعد ثورة 26 سبتمبر حيث لم يتمكن من استكمال دورة التعليم القصيرة تلك لانشغاله باعمال الزراعة والرعي ولعدم وجود مدرسة نظامية بالقرية. ولكنه بعد سفره الى المملكة العربية السعودية قد تمكن من اجادة القراءة والكتابة الى حدا ما. ومنذ فترة السبعينات ومع انتشار المدارس في المنطقة وبوجود وزارة في الحكومة خاصة بالتعليم تطلع الأهالي لانشاء مدرسة في القرية. واستمرت الوعود بينما تعلم مواليد السبعينات والثمانينات والتسعينات والألفينات في مدارس القرى المجاورة.

رحلة شاقة كان يقوم بها الطلبة في كل صباح الى القرى المجاورة ، اجيال متعاقبة تعاقبت على تلك الطرقات الوعرة ومدارب السيل والوديان.
ففي زمن المعاهد العلمية كان اطفال لا تتجاوز اعمارهم العشر سنوات يقومون برحلة شاقة، مشيا على الاقدام، من قريتنا الى المعهد العلمي الذي يبعد عنا مسافة تزيد عن 3 آلاف متر، كانت هذه الرحلة تشكل عائق امام التحاق الفتيات بنظام المعاهد العلمية بينما التحق اقل من 10% من الفتيات بالمدرسة الأقرب لقريتنا والتي تبعد مسافة تزيد عن ساعة مشي على الأقدام.
بالمحصلة كان 90% من الأطفال الذكور يلتحقون بالمدارس في الصفوف الأولى وقرابة 10% من الفتيات.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، في بيتنا من بين 5 فتيات وولد، والذي هو انا ، وخلال الفترة ما بين العام 1994 والعام 2004، التحقت انا وأختى الصغرى بالمدرسة بينما لم تستطع بقية اخواتي الذهاب الى المدرسة لبعد المسافة في الوقت الذي كانت والدتي في حاجة لمساعدتهن في البيت واعمال الزراعة ، ولو أن المدرسة كانت في داخل القرية لتمكنَّ وغيرَهُنَّ من فتيات القرية من حضور الصفوف الدراسية من الساعة ال8 صباحا الى الثانية عشر ظهر دون ان يأثر ذلك على واجباتهن المنزلية.
في الحقيقة لم تكن واجبات المنزل والرعي والزراعة هي ما وقفت حجر عثرة امام تعليم الفتيات في قريتنا وغيرها من القرى ، كانت المسافة البعيدة الى المدرسة في القرى المجاورة هي العائق الأكبر والمبرر لأولياء الأمور لمنع الفتيات الصغيرات من اللحاق بالصفوف الدراسية.
دعوني اذكر لكم لماذا كانت تلك المسافة عقبة:
كان العام الدراسي يبتدي في شهر سبتمبر وهو آخر شهور فصل الخريف ، وفي الكثير من السنوات يستمر هطول الامطار الغزيرة او المتوسطة خلال هذا الشهر ، ويصاحب ذلك انخفاض شديد في درجة حرارة الجو ونزول السيول الجارفة في الطريق الى المدرسة. لقد عايشت تلك الأجواء ل 12 عاما وما زلت اتذكر الأيام الصعبة التي كنا نمر بها في حالة سقوط الأمطار ونحن ما زلنا في المدرسة او في طريق العودة الى البيت. لا أحد يستطيع ان يتخيل المواقف ، كيف لأطفال تتفاوت اعمارهم ما بين السادسة والعاشرة ان يقطعون تلك المسافة مشيا على الأقدام من أعلى الجبل الى أسفل الوادي، ناهيك عن تقلبات الأجواء وسقوط الأمطار والسيول الجارفة. اليوم وقد اصبحت أب صرت أتذكر تلك الأيام واشعر بالأسى الذي كان يعيشه والديا بينما يترقبون عودتي من تلك الرحلة الشاقة ، اشعر بألم شدد في النفس عندما اتذكر والدتي وهي تخشى سقوط الامطار بينما فلذة كبدها لا يزال في المدرسة او ربما كان في طريق العودة.
الصعوبة الثانية في الشتاء، حيث تتبع القرية جغرافيا منطقة يريم وهي المنطقة الأبرد في اليمن بعد قمة جبل النبي شعيب، كنت وانا في الصفوف الأولى ومازلت اتذكر ذلك ، بينما نمر من الوادي ذهابا إلى القرية كنا نجد الماء متجمد في سواقي الماء وسط الحقول الزراعية. لقد كنا نتجمد حرفيا في الصباح الباكر عندما نضطر للخروج من المنزل قبل الساعة السابعة حتى نتمكن من اللحاق بطابور الصباح في المدرسة البعيدة. لقد كنا نصاب ما يسمى بـ “عضة البرد” و”هي الإصابة التي تنتج عن تعرض أجزاء من الجسم لدرجات حرارة المنخفضة الشديدة (التجمد)، حيث يؤدي إلى تلف الجلد والأنسجة، وفقدان الشعور، وتغير لون المنطقة المتضررة، ويمكن أن تؤثر في أي جزء من أجزاء الجسم بما في ذلك الأنف، والأذن، والخدان، والشفتان؛ لكن أصابع اليدين والقدمين هي الأكثر شيوعًا للضرر”.

الصعوبة الثالثة تكمن في الأكل، فبينما كان اطفال القرية التي بها المدرسة يعودون في فترة الراحة الى منازلهم لتناول طعام الفطار ، كنا نحن طلبة القرى المجاورة ننتظر في ساحة المدرسة او في المزارع المجاورة نحاول ان نتناسى وقت الراحة باللعب بينما نصبر على الجوع حتى نعود الى البيت في فترة ما بعد الظهيرة. لا أدري حتى لماذا لم نكن نحضر معنا أكل، كانت قطعة خبز وماء ربما تفي بالغرض لكننا كنا نشعر بالحياء عندما نحضر معنا أكل الى المدرسة فلم تكن تلك ثقافة سائدة حينها، كما كنا نرى طلبة القرية التي بها المدرسة يتنمرون على بعض زملاء لنا الذين يقومون بإحضار خبز وشاي في شنطهم المدرسية ويقومون بالسخرية منهم.
كم كنت اتمنى ان تكون المدرسة قريبة من المنزل حتى اتمكن من العودة الى البيت وتناول طعام الفطار، في الحقيقة حتى ماء الشرب لم يكن متوفر في المدرسة فقد كنا نذهب للمنازل المجاورة لشرب الماء وقت الراحة وقبل العودة الى البيت ، كان هنالك 3 خزانات ماء جوار المدرسة وكانت مياة باردة ولذيذة لا يمكن نسيانها ولا نسيان طيبة قلوب مالكي تلك الخزانات وتعاونهم، فشكرا لهم على الدوام. وفي الطريق كان هنالك قبة ماء باردة في احد المساجد يصلها الماء من الجبل ، لا يمكن نسيات تلك الشربات الهنيئة.
كنت اعود من المدرسة وقت الغداء والجوع يعصر بطني وأيا كانت وجبة الغداء، فهي بعد ذلك الجوع والسفر الطويل، ألذ وجبة في الكون، أشكر والدتي وأخواتي على جهودهن الدائمة خلال تلك الـ 12 عاما الصعبة.
الصعوبة الرابعة هي عدم وجود حمام في المدرسة خصوصا على الفتيات، فلو أن المدرسة كانت بالقرية لكان الأطفال يعودون الى البيوت لقضاء الحاجة.
الصعوبة الخامسة هي صعوبة نفسة ، لازلت اتذكر قبل 28 عاما عندما ذهبت للمدرسة لأول يوم ، كنت اشعر انني فارقت عائلتي الى الأبد وانني لن اراهم مرة أخرى ، لقد كنت في السابعة من عمري وكان السفر مشيا الى القرية المجاورة من أجل الدراسة شيا لا طاقة لي به. ربما كنت اكثر حظا من اطفال اخرين ، فقد كان خالي واعمومي في المرحلة الأعدادية وكانوا بمثابة الأخوة الكبار الذين يرعون اخوانهم الصغار ، وعندما قال لي خالي ذات يوم في الاجازة الصيفية قبل الصف الثاني الابتدائي بأنه سيقوم بتغيير المدرسة والانتقال للدراسة في مكان آخر ، بقيت ابكي حتى اخبرني لاحقا انه عدل عن الفكرة.
خلاصة القول أن قريتنا منذ ما قبل طوفان نوح عليه السلام لم تحضى بمدرسة نظامية لتعليم الاطفال الصغار القراءة والكتابة حتى شهر اغسطس الماضي من العام الحالي 2022 حيث حدثت المعجزة. استيقظ اهلي القرية ذات صباح خريفي جميل على اصوات لم يكن أحد يحلم بها ، اصوات سُمع صداها في كل مكان، فرحة غامرة ملأت الجبال والحقول الزراعية والطرقات ومدارب السيل وجداول الماء واخترقت جدران المنازل القوية. فرحة ردد صداها ابنائنا في الصف الأول والثاني والثالث والرابع الإبتدائي خلال طابور الصباح في أول يوم دراسي في فرع مدرسة الفجر الجديد في قرية إلمان – مديرية السدة – محافظة إب.
حتى هذه اللحظة، المدرسة عبارة عن اعتراف ناله الأهالي من ادارة التربية والتعليم بالمديرية وسبورة وطبشور ولا شيء غير ذلك سوى ما يقدمه الأهالي ومساحة مفتوحة لا تقي من الحر ولا البرد ولا المطر ، تضم المدرسة أكثر من 150 طالبا من اطفال القرية المتعطشين للتعليم غالبيتهم من الفتيات.
كل الشكر والتقدير للنساء والرجال الشرفاء من أهل القرية الذين حملوا على عاتقهم هذا الهم والذين لا يسع المجال لذكر اسماءهم حتى لا يسقط اسم احدهم سهوا ، لكنني على يقين بأنهم قد نالوا الشرف الذي طالما تمنيناه جميعا. لقد صنعوا المعجزة التي لطالما انتظرتها القرية منذ آلاف السنين. والشكور موصول الى ادارة الفجر الجديد وادارة التربية والتعليم في مديرية السدة.
المدرسة في امس الحاجة لدعم الجهات المعنية والمنظمات وأهل الخير.

 

عن gamdan

شاهد أيضاً

نتنياهو واستراتيجية الديماغوجيا .. 

‏‏  2 دقائق للقراءة        335    كلمة الحديدة نيوز – كتب – بشير القاز في أول تصريح …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *