عبدالباري طاهر: اليمن تفكك أكثر وتوحد أقل!
الحديدة نيوز/خـــــــــــــــــاص
لا يختلف تاريخ اليمن عن غيره من الكيانات التاريخية الحضارية التي شهدت حروباً عديدة، وقامت كياناتها الموحدة بالحرب. ربما كان تحدي البيئة القاسية والشموس – كتعبير الزبيري – جلي في مسار التاريخ اليمني. فمنذ نشأة الدولة السبئية، أقدم دولة في التاريخ اليمني، وصولاً إلى وتر علي صاحب «نقش النصر»، وابنه شمر يهرعش، تم ضم حضرموت إلى حمير في العقد الأخير من القرن الثالث الميلادي، واتخذ شمر يهرعش اللقب الجديد (ملك سبأ، وذي ريدان، وحضرموت، ويمنة)، ويكون بذلك قد تحقق حلم توحيد اليمن، ولأول مرة في تاريخها، والذي تبنته سبأ في البداية، وحققته حمير في النهاية.
وببدء عصر التتابعة المذكورين في القرآن والمصادر العربية، رافق توحيد اليمن، ولمدة نصف قرن، عبادة إله واحد (المقة): الإله السبئي المعروف، تبعه اتخاذ ملوك حمير ديانة التوحيد، وعبادة الرحمن كإله رسمي. راجع (توحيد اليمن القديم، د. محمد عبد القادر بافقيه، مقدمة منير عربش). وبلغ هذا التوحيد ذروته، فامتد إلى العديد من مناطق الحجاز على يد التبع أسعد الكامل.
يشير الدكتور بافقيه في كتابه (في العربية السعودية)، جـ 2:ص57-58: «قد كانت الفترة العتيقة فترة ازدهار للتجارة العربية، حتى جاء وقت قال فيه أجاثر خيدس – الربع الأخير من القرن الثاني قبل الميلاد -: ليس هناك من الأمم من هو أغنى من السبئيين والجرهائيين! لعلهم (الهجريون) الذين كانوا وكلاء كل شيء يقع تحت اسم النقل بين آسيا وأوروبا؛ فإنهم هم الذين جعلوا سوريا البطالسة غنية بالذهب، وهم الذين سهلوا للفينيقيين سبل التجارة المريحة».
قدم الحميريون التبابعة البديل الأفضل للتجزأة، والكيانات القبلية والجهوية، وتسلط الأقيال في غير منطقة، وخلقوا البديل الحضاري الممتد النفوذ إلى مناطق واسعة في العالم القديم، وعَبَّرَ التوحيد السماوي عن التوحيد على الأرض. ثم كان التوحيد الثاني، والمهم أيضاً، على يد الدولة الصليحية ورمزيها الخالدين: علي بن محمد الصليحي (390- 459هـ )، والسيدة أروى بنت أحمد الصليحية (477- 532هـ).
إذا كان الأساس في قيام الوحدة الأولى، في العهد الحميري، بالحرب، وبتقديم أنموذج للازدهار الزراعي والتجاري – كما يشير المؤرخون: بافقيه، وجواد علي، ومطهر علي الإرياني، وكتوصيف يوسف محمد عبد الله، والعمري في أكثر من كتاب، ويشيد به المؤرخون عرباً، وأجانب، وإسلاميون- فإن التوحيد الصليحي 455 هـ قد قام في الأساس على مزاوجة بين الدعوة، والإقناع، والحرب. فقد مكث الزعيم الصليحي يحج باليمنيين – طيلة خمسة عشر عاماً – عبر طرق الحج المختلفة، ويلتقي بالحجاج اليمنيين والعرب والمسلمين، ويتعرف على أحوالهم، ويقيم التواصل مع الكثير منهم. وكان عصره – النصف الثاني من القرن الخامس الهجري – عصر انتشار الدعوة الفاطمية في المغرب، وانتصارها في مصر.
في العام 405 إلى سنة 448 هـ عم الخراب صنعاء وغيرها من بلاد اليمن؛ لكثرة الخلاف والنزاع- كما يشير صاحب (الأنباء)، وهو مؤرخ ليس بالصديق للإسماعيلية، ويضيف: أن صنعاء كانت تشهد والياً كل عام، وأحياناً كل شهر، وأصبحت دُورها ألفاً بدلاً من مئة ألف أيام الرشيد، وكانت المخاليف – على كثرتها – موزعة على أكثر من أمير أو أسرة أو متغلبين، وأحياناً أكثر من أسرة تحكم المخلاف الواحد. يعدد صاحب كتاب (الصليحيون والحركة الفاطمية في اليمن) عدد هذه المخاليف المحكومة بعشرات الأسر، والأمراء، و«ملوك القرى ».
ينحدر الصليحي من أسرة شافعية لها مكانة وجذور في حراز. التحق سراً بالحركة الإسماعيلية، وترقى في مراتبها، حتى أصبح الداعية الأول بعد القاضي الزواحي، وعقد التواصل مع المستنصر في مصر رأس الإسماعيلية حينها.
يذكر حسين فيض الله الهمداني نزول الصليحي سراً إلى حيس، وتتبع أحوال تهامة، وأخبار النجاحيين، المسيطرين- آنئذ- على تهامة، واضطراره للعمل في معصرة السمسم، وارتداءه لباس السليط؛ للمزيد من التخفي.
ولكسب قلوب الناس والمؤيدين والأنصار، حج الصليحي بالناس خمسة عشر مرة. ويقيناً، فإن رفقة السفر، ومعرفة المناطق وأهلها وأحوالها، والالتقاء بمختلف الناس في مؤتمر سنوي عام في مكة وعرفة ومنى ومزدلفة لعدة أسابيع أو شهور مكنه من معرفة الكثير من مناطق اليمن والعالم الإسلامي، وبالأخص مركز الحكم والدعوة (مصر).
سرعة اجتياح اليمن شاهد ضعف الأسر والأمراء، وهشاشة أوضاعهم، ودليل براعة تكتيك الداعي الإسماعيلي علي بن محمد الصليحي، وأهمية مشروع التوحيد الذي دعا إليه، خصوصاً وهو لم يكن وارث حكم، أو منتسباً إلى الأسر التي تتوارث وتتقاسم الحكم والنفوذ في اليمن.
مازج الصليحي في كفاحه بين العمل السري: الانتماء للطائفة الإسماعيلية الحاكمة في مصر والمنتشرة في غير منطقة، وبين النضال العلني: خمس عشرة حجة أداها، وتعرف فيها على أحوال اليمن والبلاد العربية والإسلامية، بما فيها الخلافة الإسلامية الآيلة للسقوط، والتي أصبح وجودها في البلدان العربية إما منعدماً، أو شكلياً، كما هو الحال في اليمن، كما مارس الإقناع، وقام بكسب المؤيدين، وقدم نفسه كمخلص، وأنموذج عادل، ومتسامح، وموحد، وغير متعصب لمذهب من المذاهب، بما في ذلك مذهبه الإسماعيلي، والاقتصاد في استخدام القوة، والمواجهة العسكرية في أضيق الحدود.
تاريخ مسلم اللحجي الذي قام بتحقيقه الدكتور مقبل التام، والذي نتمنى أن يكون قد توفق في طباعته، وتاريخ العلامة الجليل حسين فيض الله الهمداني (الصليحيون والحركة الفاطمية في اليمن)- يقدمان صورة زاهية للتسامح الديني، ولأنموذج حكم غير مسبوق يقوم على تباري المدارس الكلامية: الزيدية، والأشعرية، والمذاهب الفقهية المختلفة، وكانت جبلة، والجامع الكبير في صنعاء، وزبيد ميادين خصبة للحوار الكلامي، والفقهي، والأدبي، والفكري.
التعامل الحضاري المتسم بالرقي والتسامح عبر عنه عفو الصليحي المتكرر عن الخارجين على الحكم. وبدلاً من قتل أو تشريد الأمراء، والسلاطين، والإقطاعيين، والأقيال، وكبار الأسر المتنفذين- جرى استضافتهم، والإنفاق عليهم، ووضعهم تحت عين السلطة في صنعاء.
وإذا كان الحج هو السبيل الأمثل لسطوع نجم الصليحي، فإن في الحج كان مقتله أيضاً. فقد قتل في (أم الدهيم)، قرية قريبة من المهجم، شرقي مدينة الزيدية. قتل الصليحي، وهو في طريقه إلى الحج، وقد اصطحب معه الأمراء، والسلاطين، وكبار الأسر النافذين. وقد ازدهرت الدولة في عصره وعصر السيدة أروى، رغم عودة الصراعات، والخلافات، والتمردات، وانفصال تهامة تحت إمرة سعيد الأحول. وكان انفصال تهامة بداية انفراط عقد الوحدة، ومؤشر العودة لحكم المناطق وأمرائها الأسر الإقطاعية.
وقد شهدت اليمن توحيداً جديداً على يد الإمام المتوكل على الله إسماعيل (1059-1087هـ) استمر لثلاثة عقود، واتسم بالاقتتال والحروب، والتمردات، وخلافات الأسرة الحاكمة، وعودة التفكك.
الإمامة الزيدية ارتبط قيام دولها الثلاث في مراحل مختلفة على تعاضد بين عصبيات الطائفة، والقبيلة، والمنطقة؛ وهذا هو سر قوتها وضعفها في آن! فالعصبية القبلية سند قوي في الدولة القروسطية. والعصبية الدينية والقبلية شرط قيام الدولة، كقراءة ابن خلدون. وتأتي المنطقة -شمال اليمن – المسكونة بعصبيات قوية ونافذة، تتمازج هي الأخرى مع البداوة، ومتماهية مع وضع المنطقة العربية كلها. فلعقود متطاولة ظلت حاشد وبكيل أقوى تحالفين قبليين، لهما السطوة والنفوذ في الحروب والإغارة على المدن، والمناطق الزراعية في شمال اليمن. ورغم التنافس والاحتراب بينهما، إلا أنهما يقفان على أرضية وعصبية واحدة. ونقطة الضعف أن تجد الإمامة نفسها في مواجهة مع كيانات أقوى ذات بعد عربي وإسلامي تجد القابلية والمساندة في العديد من مناطق اليمن: الزياديون، والنجاحيون، والصليحيون، والأيوبيون، والرسوليون، كما أن للأمر ارتباطاً بما أشار إليه ابن خلدون من أن البلدان التي توجد فيها عصائب وقبائل كثيرة تضعف فيها الدولة. والدولة اليمنية الهشة خير مثال.
الثورتان اليمنيتان: سبتمبر 62، وأكتوبر 63 كانت خروجاً على النص القروسطي، بالاستناد إلى الإرادة العامة للشعب اليمني كله، معبرة عن روح العصر، ومتحالفة مع قيادة الثورة العربية في مصر.
وحدة الـ22 من مايو 90
وحدة مايو بحاجة إلى قراءة عميقة وواقعية للأوضاع العامة في اليمن، وأزمة الثورتين: سبتمبر، وأكتوبر قبل انكسارهما. فسبتمبر في الشمال قد وُئِدت بنوفمبر 67، وذبحت أكتوبر في 14 يناير 86.
سلطتا الشمال والجنوب واجهت حينها تحديات خطيرة، والوضع في المنطقة أيضاً كان كارثياً بسبب حرب الخليج، وخروج مصر من الصراع العربي- الإسرائيلي، والانقسامات العربية- العربية.
والوضع الدولي شهد انهيار الاتحاد السوفيتي، والمعسكر الاشتراكي الذي مثل القطب الثاني في المعادلة الدولية.
كانت الوحدة – في جانب- شكلاً من أشكال التصالح الوطني والمجتمعي، وكان تحقيقها، عبر الحوار السلمي، الملمح الأهم والأبرز.
العصبيات القبلية والمناطقية هي الأقوى، وهي موجودة وفاعلة تتعكز الطائفية، وإرث خطاب التخوين والتكفير المغروس في المناهج التربوية المدعومة من السعودية وبعض شقيقاتها الخليجية. خطاب المسجد والإعلام والأحزاب معمد بالكراهية، والتحريض، والاتهام.
خلال الأربع أعوام من عمر الوحدة، حرصت قوى الحرب على الإبقاء على الأوضاع، كما هي، ولغمتها بالاغتيالات الكاثرة، وتأجيج الصراعات بين الأحزاب والقبائل والمناطق، والإبقاء على جذوة صراع الشمال والجنوب؛ وصولاً إلى كارثة حرب 94 التي قضت على الوحدة، وأعادت اليمن إلى مكوناتها الأولى، وفتحت الأبواب لحروب صعدة الستة، وحروب تبدأ ولا تنتهي.
عبر التاريخ، هذه القوى لا تستطيع الحكم إلا من خلال الحرب، ولا تعيش ولا تزدهر إلا فيها