بقلم / المفكر / عبدالباري طاهر
بعد مضي أكثر من 3 أعوام على الحرب في اليمن و عليها، لا تزال جوانب عديدة من أسرار هذه الحرب وتعثرها واستعصائها على الحل تخيم على الأجواء. يستغرب المحللون والعسكريون من وجود تحالف اثنا عشري يضم بلدان ذات قدرات ع�كرية كبيرة كمصر والسودان والمغرب والأردن، وتقوده السعودية ودولة الإمارات العربية في مواجهة «ميليشيات» محدودة العدد والعتاد- «أنصار الله»، وبقايا من جيش الرئيس السابق علي عبدالله صالح وأمنه-، ولم يحقق هذا «التحالف» القوي الانتصار الحاسم. وإذا ما أخذنا بالاعتبار السند الدولي عبر قرارات مجلس الأمن تحت الفصل السابع، وشرعية الرئيس عبد ربه منصور هادي، والإدانة الدولية للانقلاب عليه، ومن ثم فساد دعاوى الانقلاب وتهافت شعاراته، فإن الاستغراب يأخذ مدىً أبعد.
منذ الأيام الأولى للحرب، حرصت إيران و«أنصار الله» على تضخيم الانتصار، وإبراز الدور الإيراني في العاصمة الرابعة كتسميتهم، وكانت المناورة العسكرية قرب الحدود مع السعودية ذروة الاستفزاز. كل ذلك سرع بالإنزلاق السعودي من دون رؤية ومن دون روية أو خطة عسكرية، مأخوذة بتحالفاتها الواسعة، والرفض الشعبي اليمني للانقلاب، والقرارات الدولية المساندة لـ«الشرعية»، والدعم الأمريكي- الأوروبي الكبير من إمداد السلاح إلى الدعم اللوجستي القوي. وربما وقعت السعودية والإمارات تحت إغراء القوة، وأن المعركة محسومة خلال أسابيع أو شهور، وتوخت السعودية والإمارات وضع اليمن تحت الإبط كخطوة لتزعم المنطقة كلها، ومواجهة الوجود الإيراني في المنطقة وتهديداته في غير منطقة.
عشعشت أوهام الحسم العسكري على كل الأطراف الداخلية والخارجية في الحرب. يمتلك صانع قرار الحرب القدرة على تحديد زمان ومكان إطلاق الرصاصة الأولى، أما بعدها فلا يستطيع تحديد النهاية.
الحرب في اليمن سردية كبرى يرويها انهيار سد مأرب، وقصص «تفرقوا أيدي سبأ». انهيار حضارة آثارها ما تزال باقية شاهدة على جرائم الحروب برغم مضي مئات والآلاف السنين.
ذاكرة اليمني في الحرب متوقدة، واستطالة الحرب لها علاقة بهذه الذاكرة المرعبة في اليمن، ولها علاقة بالغرور والتجبر الذي أبداه قادة تحالف الحرب السعودية –الإماراتية، كما أن لها علاقة بهشاشة التحالفات وفسادها وعدم المبدئية والصدق بين مختلف أطرافها، وسوء النوايا المبيتة ضد بعضهم وضد الآخرين. الحرب الكريهة أسوأ ما تخزن الذاكرة من الماضي البائس، خصوصاً مرحلة بداية تأسيس الكيانين القطريين في اليمن والسعودية، وحروب مستمرة ومتقطعة بينهما على مدى ما يقرب من قرن.
الحرب المدمرة في اليمن وعليها، معمدة بمطامع القوى الداخلية بالأساس في استمرار حكم علاقته بالماضي أكبر من صلته بالعصر والحياة والمستقبل، ويستمد وجوده وشرعيته من دعاوى وأوهام الحق الإلهي والإرث الوبيل أكثر من استمداده من الشعب وخيار الأمة.
الصراع الإقليمي الإيراني- السعودي داءٌ وبيل وجد الاستجابة والقابلية في الجسم المنخور والهزيل كقراءة المفكر الإسلامي مالك بن نبي. الصراع الدولي غذى ويغذي هذا الصراع لا لتصفية الحساب مع إيران فحسب، وإنما أيضاً لاستنزاف ثروات المنطقة، والتمهيد لإعادة صياغتها، وفرض صفقة القرن التي يتزعمها ترامب ونتنياهو.
جوهر الصراع كله أن حكام اليمن انقسموا على أنفسهم، بعدما حاصرتهم ثورة شعبية سلمية عجزوا عن مواجهتها وقمعها؛ فانقسموا مع وضد، وأعادوا إنتاج النظام واقتسامه بدعم خليجي بموجب مبادرة التعاون الخليجي.
برغم مخرجات الحوار، ومشروع الدستور الديمقراطي لدولة اتحادية ديمقراطية، إلا أن القوى الحاكمة والمنقسمة ظلت تخوض صراعاتها خارج الحوار مراهنةً على القوة والغلبة أكثر من الرهان على الحوار أو الحل الدستوري، فهي لا تؤمن إلا بالقوة، ولا تحتكم إلى إليها.
كان الحوار الوطني الشامل ثمرة من ثمار الثورة الشعبية السلمية التي جرى الالتفاف عليها واحتوائها بانقسام السلطة، وانضمام الجنرال محسن الأحمر ومحازبيه في الحكم وخارجه إلى الثورة الشعبية بذريعة حمايتها. وفي حين حرص المتحاورون -عبر مخرجات الحوار ومشروع الدستور الديمقراطي- على حل قضية الجنوب، والخلاص من المركزية بالأقلمة، وبناء دولة مدينة اتحادية وديمقراطية، فقد ظل رهان أطراف السلطة التي حكمت طوال الثلاثة والثلاثين عاماً على القوة والحسم العسكري، وكان الطرفان ضد مخرجات الحوار ومشروع الدستور، وضداً على الثورة الشعبية بالأساس، وإعطاء الجنوب حق تقرير المصير.
تَحالفَ صالح مع «أنصار الله» لإقصاء خصومه – حلفاء الأمس-؛ ولضرب الثورة الشعبية السلمية وثمرتها: مخرجات الحوار، ومشروع بناء الدولة.
دول الخليج، وبالأخص السعودية، لم تكن بعيدة عن أطراف الصراع؛ فهم حلفاؤها لمدى زمني ليس بالقصير. انزلقت السعودية والإمارات على عجلة من أمرهما ودخلا حرباً لا يعرفان نهايتها.
طول أمد الحرب وعدم تحقيق نتائج في جبهة نهم وصرواح وصعدة والبيضاء دفعهما للتوجه للخيار المفضل للإمارات العربية (الساحل)؛ خصوصاً وقد حققت إسقاط المخا، ربما توقع «التحالف» أن الاستيلاء على مطار الحديدة والميناء سوف يسرع بانهيار «أنصار الله»، وسيفرض الحل المأمول.
مغامرة احتلال مطار الحديدة لا تقل خطورة عن متاهة الحرب في الجبهات الأخرى؛ فهذه الجبهة تمتد لأكثر من 250 كيلومتراً، وتمر بمدن كثيرة مفتوحة هي الأخرى موئل مقاتلي الحوثي.
إطالة أمد الحرب واستنقاعها يعود في جوانب مهمة إلى أن كل الأطراف الداخلية والخارجية لا هدف لها غير التسيد بالقوة والحكم بالقهر، ولا تمتلك في الوقت نفسه عقلاً سياسياً وخططاً عسكرية قائمة على دراسة أوضاع شعب شديد المراس والخبرة القتالية؛ فاليمن بيئة شموس ترفض التدخل الأجنبي بذاكرة تمتد لمئات وآلاف السنين.
الحرب على اليمن كمن «يبيع الماء في حارة السقايين»، كما يقول الإخوة المصريون. المصيبة -كل المصيبة- أن «أنصار الله»- كـ«التحالف»- يمتلكون عضلات قوة من دون ذكاء سياسي، ويتفوق «أنصار الله» على «التحالف» بأنهم أبناء البيئة القاسية والعنود، وتعتمد السعودية في تحالفاتها الداخلية على جزء رئيس من تحالف الحكم الممتد لـ33 عاماً، وهي قوة مرفوضة شعبياً وجزءً أساسياً من أزمة الحكم الذي ثار ضده الشعب. وكلهم -أي أطراف الحرب – الداخلية والخارجية ضد مخرجات الحوار، وضد بناء الدولة التي كانوا في قمة هرمها، ومثلوا نفياً لها بتغليب الولاءات القبلية والطائفية وما دون ذلك. وإذا كانت «المليشيات» الداخلية وأحزابها المعزولة عن ميادين القتال لا تمتلك القرار، فإن «التحالف» وقياداته السعودية والإمارات هي الأخرى مرتهنة بمستوى معين للقرار الدولي، وبالأخص الأمريكي البريطاني الفرنسي.
تكتيكات الحرب كلها تتخذ طابع المؤامرة، وتحيي الثارات والانتقام، وتصفية الحسابات، وإلا فبماذا نفسر الذهاب إلى الحديدة قبل فك الحصار عن مدينة المدن اليمنية تعز؟ تحرر المخا وحيس في حين يبقى الحصار مفروضاً على المدينة الموجود أبناؤها في مختلف مناطق اليمن.
التواطؤ على استمرار حصار تعز يكشف النوايا الخبيئة، وتهافت هدف «عودة الشرعية» -الشعار الرئيس للحرب- فهو ليس أكثر من خداع وتزويق؛ فـ«الشرعية» لا يُراد لها أن تكون موجودة في عدن والمناطق «المحررة». ويدرك الشعب اليمني بذكائه الفطري أن الحرب كلها بين أطراف خَبَرها، ويعرف مراميها وأهدافها، فهو يدين الحرب ويرفضها داعياً للتحاور وعودة السلام؛ فالتحالفات كلها مدخولة ومغشوشة، والحرب كلها معومة، ومعركة الحديدة مشرعة على اتجاهين: إما القبول بالسلام، والتوافق على جعل الحديدة وتهامة بوابة للوصول إليه، وللحل السياسي الشامل، أو الاستمرار في حرب لا يستطيع أحد تحديد نهايتها.