يدفع المدنيون، وفي مقدمتهم الأطفال، الفاتورة الأكبر للحرب في اليمن، وتتضاعف قيمة الفاتورة في حال الإصابات التي تنتهي بإعاقة.
هديل محمود عبد الواسع (13 عامًا) من محافظة تعز (جنوب غرب) واحدة من ضحايا الحرب التي أتت على المئات من أقرانها، في بلد سافرت عنه الطمأنينة وغدت الدماء ورائحة الجثث المحترقة عناوين لانتصارات “وهمية” يسوقها كل طرف لأتباعه.
لم تكن تدرك “هديل”، وهي تمارس هوايتها في تسلق الأشجار القريبة من منزلها، أن قذيفة حوثية ستحيل أيامها إلى وجع دائم وألم جاثم، سيبقى معها ما بقيت على قيد الحياة.
تقول هديل، وهي تروي قصة ألمها للأناضول، في يوم 7 أبريل/ نيسان 2017 كنت أمارس هوايتي المعتادة في اللعب واللهو أمام منزلي بقرية العراري في مديرية جبل حبشي.
كانت الطفلة حينها مستأنسة بالأجواء الماطرة والطبيعة الخلابة التي تمتاز بها قريتها وسائر أرياف اليمن.
وتابعت، فجأة سقطت قذيفة “حوثية” علي وأنا أتسلق أحد الأشجار القريبة من منزلي، ولم أفق إلا في غرفة الإنعاش بمستشفى في عدن (جنوب).
** الخبر الصاعقة
ما كنت أظن وأنا مستلقية على سرير المرض ويداي ملفوفتان بالرباط الأبيض، أنهما قد بترتا وأن الأصابع التي كنت أمارس بها عشقي في الكتابة والرسم قد ذهبت دون رجعة.
بهذه الكلمات، تستذكر “هديل” يوم علمها ببتر أطراف يديها، وتقول، “نزل علي الخبر كالصاعقة، لم أستوعب الأمر وأمي تحثني على الصبر واحتساب الأجر عند الله، كنت حينها بين واقع الحقيقية المؤلمة، وعدم التصديق أنني أصبحت بلا يدين”.
أسودت الدنيا في عيني الطفلة وشعرت أن الأرض قد ضاقت عليها بما رحبت، ثم تساءلت والحسرة تملأ قلبها: “كيف سأمسك القلم وأقرأ الكتاب وأتناول الطعام واستحم بنفسي كما كنت سابقا؟”.
تسربت المسرات من داخل الطفلة كما يتسرب الماء من بين فروج الأصابع، لم يعد باستطاعتها الذهاب إلى مدرستها التي تحبها كثيراً، ولم تعد تقوى على اللعب مع صديقاتها.
وتضيف “هديل”: شعرت حينها بحسرة كبيرة، وأصيبت عيناي بالكلال، لم أتخيل أنني لم أعد قادراً على فتح كراسات المدرسة وممارسة عشقي وهيامي في الكتابة، كنت أشعر بالعجز والقهر معاً.
عاشت هديل أياما صعبة وليالٍ مؤلمة، كانت فيها كثيرة النشج والإحساس باليتم، ترى في عينيها وهي تحدثك توسلات طفلة كسيرة جار عليها الزمان ونال من إشراقة وجهها وابتسامتها الدائمة ندوب الوجع.
يقول طه هزاع محمد ( خال هديل)، للأناضول، رغم هول الصدمة لم تستلم هديل للواقع فسرعان ما حاولت الكتابة، فمسكت القلم بأصابع قدميها ومن ثم بأسنانها إلا إنها لم تستطع الكتابة.
وأمام اصرارها على مواصلة تعليمها، تمكنت من مسك القلم بكلتا يديها المبتورتان، لكن الأمر لم يكن سهلا البتة.
** معاناة أخرى
المصائب، كما يبدو، لا تأتي فرادى، فبعد السعادة التي غمرت هديل وهي تستعد لمغادرة اليمن صوب سويسرا لزرع أطراف صناعية لها، كانت صدمتها كبيرة جدًا. يقول طه، تبنت إحدى المنظمات إمكانية نقل هديل وطفلان آخران إلى مصر أولا ثم جنيف لتركيب أطراف صناعية..
ويتابع فور وصولنا إلى القاهرة، بدأنا معاناة من نوع آخر، حين طلب تلك المنظمة عقد مؤتمر صحفي، أولاً، الأمر الذي أثار استغرابنا.
ويضيف، حاولنا الاستفسار عند الجدوى من المؤتمر الصحفي، ولماذا نحن مطالبون بهذا بالمؤتمر؟ ونحن أساساً أتينا لأجل العلاج.
وأوضح، عرفنا فيما بعد أن المسألة نوع من المزايدات الإعلامية والتكسب على حسابنا، بعيداً عن الجانب الإنساني الذي كان يغلف عمل تلك المنظمة في اليمن، الأمر الذي دفعنا إلى الرفض.
** ردة فعل غير متوقعة
يقول طه، رفضنا لعقد المؤتمر الصحفي دفع تلك المنظمة إلى حجز جوازات السفر ومنعت عنا حتى الـ”50″ جنيهاً (نحو 3 دولارات)، كمصروف يومي.
ويمضي، مرت علينا أيام صعبة بكل ما للكمة من معنى، ولولا وقوف أهل الخير معنا لوجدنا أنفسنا في الشارع بلا مأوى، وكان أقصى ما كنا نتمناه العودة إلى بلادنا.
وأوضح، أمام هذه الأحداث المؤلمة لجأنا إلى سفارتنا في القاهرة، وتمكنا بعد 4 أشهر من استعادة جوازات السفر.
وينوه بأنه خلال تلك الفترة تمكنا من الحصول على وعود من قبل أحد رجال الأعمال في تعز، بالتكفل بزراعة أطراف صناعية في القاهرة. وتابع: أبلغنا بعض الأطباء بالقاهرة أن تركيب أطراف صناعية “إلكترونية” صعب للغاية، وبالتالي علينا الاقتناع بتركيب أطراف عادية، فقبلنا بالأمر مكرهين.
و تستعد هديل بنفس مكسورة لتركيب الأطراف الصناعية في القاهرة بعد 6 أشهر من المعاناة والمتابعة والألم، ولسان حالها ليس الحزن هو وحدة المكتوب، لكنه “العذاب”.
تأمل الطفلة اليمنية في نجاح الأمر سعيًا لتحقيق حلمها الكبير بأن تكون إعلامية ومقدمة برامج تلفزيونية مستقبلاً.