البقدونس العربي والنعناع الامريكي

‏  4 دقائق للقراءة        661    كلمة

 

مقال ساخر / بقلم علي ديبة

هذه ليست رواية من بنات الخيال، كنت واقفاً أصغي، والله على ما أقول شهيد. سألتْ امرأة البائع عن ثمن جرزة البقدونس، أجابها عابثاً: إذا كانت للكفتة فهي بخمس ليرات، أما إذا كانت للتبولة فهي بعشر ليرات. أجابت المرأة جادة: أريد جرزتين للتبولة، ودفعت إلى كفه عشرين ليرة عداً ونقداً. كأنها لا تعلم أن البقدونس هو البقدونس في جميع الظروف والأحوال والمناخات.. ولا أظن أن هذه المرأة وحيدة في عسر تفكيرها وتعثره. بقياس بسيط ورؤية أشمل سوف نجد تفكيراً عربياً يرى بقدونس الكفتة على غير ما هو عليه بقدونس التبولة. من غير غرق في التفاصيل.

كان ذلك أثناء الحملات الدعائية الانتخابية في الولايات المتحدة، وقبل إعلان نتائجها بزمن لا يزيد عن ساعة. ربما كنت مصيباً فيما سأذهب، أو مخطئاً فيما أرى، لكني سأبقى مصراً ومدافعاً عن سلامة تفكيري، ولن يبدل بما في رأسي اليابس ألف شاكوش ومطرقة ، لا لأني فردي النزعة، وتنح كما يصفون من كان مثلي، إنما لأني أقرأ التاريخ، وأفهم أسباب الوقائع وألاحظ نتائجها.

قبل أكثر من شهور والعالم لا عمل له سوى الانتخابات الأمريكية، وسائط الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة الفضائية منها والأرضية سخرت قدراتها وإمكاناتها للخوض فيما صار الخوض فيه موضة وروتيناً يومياً يملأ الفراغ ويزجي الوقت. المثقفون واللغويون، الأسماء الإعلامية والسياسية، الباحثون والنقاد، من له في السياسة، ومن ليس له فيها، جميعهم صاروا يختارون ألفاظهم، وينتقون مفردات ومصطلحات تتناسب مع حجم المناسبة والحدث، يتبارون في سباق محموم حين ترتفع نقاط الديمقراطي باراك أوباما، أو حين يقلصها الجمهوري جون ماكين، وثلاثة أرباعهم لا يعرفون كيف تجمع هذه النقاط، ولا كيف تنقص، إنما يتناقلونها نقلاً ببغاوياً عن ماكينات إعلامية ممولة تمويلاً مشبوهاً، أو هي ليست حيادية بما يكفي لتكون مصدراً صحيحاً للمعلومات، فجاءت النتائج مغايرة لتلك الإحصاءات ولا تتفق مع كل ما قيل وأشيع. هكذا تعرفنا وحفظنا عن ظهر قلب أسماء ولايات ومناطق وقرى أمريكية أكثر من الأمريكان أنفسهم، مما شكل في رؤوسنا ما يشبه الهيصة، هيصة ضاع معها الحابل بالنابل، وصرنا مثل تلك المرأة لا نعرف أن البقدونس هو البقدونس، ولا اختلاف عليه إن أكلناه نيئاً أو مطبوخاً .

المسألة يا سادة ليست محصورة بحزب جمهوري أو ديمقراطي، ولا بشخص الرئيس وعرقه أو أصوله، إنما بالقرار السياسي ذات نفسه، كيف لا نتساءل: من هم صناع القرار في ذاك الجزء الهام من العالم؟ أهو الشعب الأمريكي بممثليه المنتخبين إلى الكونغرس أو مجلس النواب؟ هل الرئيس المنتخب يمكنه اتخاذ القرار الحر، الذي يجسد نهجاً يحمي المصالح الحقيقية للولايات المتحدة؟ أم أنه ملزم بما التزم به من قبل كل الديمقراطيين والجمهوريين الذين سبقوه إلى البيت المطلي باللون الأبيض؟ كيف له أن يتجاهل ” إيباك ” لجنة العلاقات الإسرائيلية الأمريكية، التي ترهب الكونغرس ومجلس النواب، والبنتاغون ، ولا يسلم من شرها حتى رئيس البيت الأبيض ، إذا ما فكر منفرداً بشراء جرزة نعناع دون سبب معلل، وإلا وجد نفسه أمام تهديدات تضعه بين فكي كماشة، أقلها ما فعلته اليهودية مونيكا ليونسكي بالمحترم بيل كلنتون. كيف له أن يتجاهل بقية الشركات والمنظمات العاملة والفاعلة في السر والعلن؟ التي لا تهتم بغير مصالحها ومصالح إسرائيل، وتدفع بالولايات المتحدة إلى هاوية السقوط السياسي والعسكري والإفلاس المالي.. لو كان الأمر غير ذلك لوجب على الديمقراطيون محاسبة أندادهم الجمهوريين على كذبهم ونفاقهم فيما يخص أسباب الحرب على العراق، على آلاف الجنود الأمريكيين الذين عادوا إلى بلادهم في صناديق مقفلة، على أزمة مالية اقتصادية تنشر ظلالها فقراً وبطالة وجريمة، فهل تعني الديمقراطية فيما تعنيه غفران ذنوب هؤلاء المجرمين، الذين تلطخت أكفهم وجباههم بدماء الأبرياء، من أمثال : كولن باول، رامسفيلت ، ديك تشيني ، وعلى رأسهم بوش الصغير ، هل تكفي عبارة: مات الملك ، يعيش الملك ، كي ترتاح الشعوب وتنعم بالسلام والاستقرار؟ أم أن مثل هذا العفو الكريم سوف يعيد إلى واجهة التاريخ المعاصر كثيرون من أمثال هولاكو و هتلر وموسوليني ؟ فهل نستفيق من هيصة التضليل, ونفكر بالبقدونس على أنه بقدونس ولا يمكن أن يكون نعناع .

عن gamdan

شاهد أيضاً

المنصور محمد .. !

‏‏  3 دقائق للقراءة        415    كلمة الحديدة نيوز / كتب / عمار وليد شخصية تحب العمل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *